طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَوَعْظُهُ بَعْدَ عَافِيَتِهِ وَتَذْكِيرِهِ الْوَفَاءَ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَيْرِ وَيَنْبَغِي لَهُ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: ٣٤]
(فَصْلٌ وَآدَابُ الْمُحْتَضَرِ)
وَهُوَ مَنْ حَضَرَتْهُ أَمَارَاتُ الْمَوْتِ أَيْ مِنْ آدَابِهِ (أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ) لِلْإِجْمَاعِ «؛ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالُوا تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لَك وَبِأَنْ يُوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ إذَا اُحْتُضِرَ فَقَالَ أَصَابَ الْفِطْرَةَ وَقَدْ رَدَدْت ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَك وَقَدْ فَعَلْت» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (مُضْطَجِعًا عَلَى) جَنْبِهِ (الْأَيْمَنِ) كَالْمَوْضُوعِ فِي اللَّحْدِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقْبَالِ مِنْ إلْقَائِهِ عَلَى قَفَاهُ وَقُدِّمَ الْأَيْمَنُ لِشَرَفِهِ وَلِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَتْ عِنْدَ مَوْتِهَا الْقِبْلَةَ ثُمَّ تَوَسَّدَتْ يَمِينَهَا (فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ) عِبَارَةُ أَصْلِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَضْعُهُ عَلَى جَنْبِهِ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِغَيْرِهِ (أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهِهِ وَأَخْمَصَاهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَشْهَرُ مِنْ كَسْرِهَا وَضَمِّهَا (إلَى الْقِبْلَةِ) بِأَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُمْكِنُ.
وَالْأَخْمَصَانِ هُمَا أَسْفَلُ الرِّجْلَيْنِ وَحَقِيقَتُهُمَا الْمُنْخَفِضُ مِنْ أَسْفَلِهِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي دَقَائِقِهِ (وَ) أَنْ (يُلَقِّنَهُ) الشَّهَادَةَ (غَيْرُ الْوَارِثِ) لِئَلَّا يَتَّهِمَهُ بِاسْتِعْجَالِ الْإِرْثِ (ثُمَّ) إنْ لَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ لَقَّنَهُ (أَشْفَقُ الْوَرَثَةِ) وَفِي الْمَجْمُوعِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَلَا يُلَقِّنْهُ مَنْ يَتَّهِمُهُ مُطْلَقًا لِيَعُمَّ الْوَارِثَ وَالْعَدُوَّ وَالْحَاسِدَ وَنَحْوَهُمْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ إنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُلَقِّنُهُ، وَإِنْ اتَّهَمَهُ وَدَلِيلُ التَّلْقِينِ خَبَرُ مُسْلِمٍ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ أَيْ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: ٣٦] وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (فَيَذْكُرُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةَ) ، وَهِيَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِأَنْ يَذْكُرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَتَذَكَّرَ أَوْ يَقُولَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُبَارَكٌ فَنَذْكُرَ اللَّهَ جَمِيعًا سُبْحَانَ اللَّهَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ (بِلَا زِيَادَةٍ) عَلَيْهَا فَلَا تُسَنُّ زِيَادَةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَقِيلَ تُسَنُّ زِيَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدُ وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا مُوَحِّدٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا لِخَبَرِ الْيَهُودِيِّ السَّابِقِ.
(وَ) أَنْ (يَذْكُرَهَا) أَيْ الشَّهَادَةَ (مَنْ عِنْدَهُ) أَيْضًا، وَهَذَا مِنْ زِيَادَتِهِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي (وَ) أَنْ (لَا يَأْمُرَهُ بِهَا) بَلْ يَذْكُرَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْته (وَ) أَنْ (لَا يُلِحَّ) عَلَيْهِ فِيهَا لِئَلَّا يَضْجَرَ (فَإِنْ قَالَهَا لَمْ تُعَدْ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ) بِغَيْرِهَا مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ وَلِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الرَّوْضَةِ (لِيَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ قَالَ الْجُمْهُورُ لَا يُزَادُ عَلَى مَرَّةٍ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ يُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَالتَّلْقِينُ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ مُتَّجِهٌ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ وَقَالَ ابْنُ الْفِرْكَاحِ إنْ أَمْكَنَ جَمْعُهُمَا فُعِلَا مَعًا وَالْإِقْدَامُ التَّلْقِينُ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ فِيهِ أَثْبَتُ وَكَلَامُهُمْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ فَيُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمُمَيِّزِ لَكِنَّ قِيَاسَ مَا يَأْتِي فِي تَلْقِينِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا.
وَفَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ التَّلْقِينَ هُنَا لِلْمَصْلَحَةِ وَثُمَّ لِئَلَّا يُفْتَنَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، وَهَذَا لَا يُفْتَنُ (وَ) أَنْ (يَقْرَأَ عِنْدَهُ يس) لِخَبَرِ «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَقَالَ الْمُرَاد بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَعْنِي مُقَدَّمَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ وَالْحِكْمَةُ فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ مَذْكُورَةٌ فِيهَا فَإِذَا قُرِئَتْ عِنْدَهُ تَجَدَّدَ لَهُ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَأَخَذَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَبَعًا لِبَعْضِهِمْ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ فَصَحِيحٌ أَنَّهَا إنَّمَا تُقْرَأُ بَعْدَ مَوْتِهِ (قِيلَ وَ) يُقْرَأُ عِنْدَهُ (الرَّعْدُ) لِقَوْلِ جَابِرٍ فَإِنَّهَا تُهَوِّنُ عَلَيْهِ خُرُوجَ رُوحِهِ قَالَ الْجَبَلِيُّ وَيُسْتَحَبُّ تَجْرِيعُهُ مَاءً فَإِنَّ الْعَطَشَ يَغْلِبُ مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ فَيُخَافُ مِنْهُ إزْلَالُ الشَّيْطَانِ إذْ وَرَدَ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَاءٍ زُلَالٍ وَيَقُولُ قُلْ لَا إلَهَ غَيْرِي حَتَّى أَسْقِيَك نَقَلَهُ عِنْدَ الْإِسْنَوِيِّ وَأَقَرَّهُ وَالْأَذْرَعِيُّ وَقَالَ إنَّهُ غَرِيبٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا (وَلْيُحْسِنْ) نَدْبًا (ظَنَّهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا، وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى» أَيْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ وَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» (وَيُحَسِّنُهُ لَهُ الْحَاضِرُونَ وَيُطَمِّعُوهُ فِي رَحْمَتِهِ)
ــ
[حاشية الرملي الكبير]
[فَصْلٌ آدَابُ الْمُحْتَضِرِ]
قَوْلُهُ وَفِي الْمَجْمُوعِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَخْ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ إنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ فَيَذْكُرُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةَ) قَالَ الدَّمِيرِيِّ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَبْكِيَ بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضَرِ (قَوْلُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إلَخْ) ، وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَالتَّلْقِينُ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ) ، وَإِنْ ظَنَّ بَقَاءَ حَيَاتِهِ (قَوْلُهُ وَكَلَامُهُمْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ فَيُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ وَقَالَ: إنَّهُ غَرِيبٌ إلَخْ) أَيْ قَالَ كَغَيْرِهِ (قَوْلُهُ وَلْيُحْسِنْ نَدْبًا ظَنَّهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَدَبُّرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ بِسَعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْأَحَادِيثِ (تَنْبِيهٌ) الظَّنُّ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ إلَى الْوَاجِبِ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى وَبِكُلِّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنْ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلَا يَحْرُمُ ظَنُّ السَّوْءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ يَسْتُرُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُظَنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا وَمَنْ دَخَلَ مَدْخَلَ السُّوءِ اُتُّهِمَ وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ وَمِنْ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَمَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا وَالْبَيِّنَاتُ عِنْدَ الْحُكَّامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute