الَّذِي لَا يَمُوتُ (لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ عَنْ الْيَمِينِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَقْبَلُهُ فَالْوَجْهُ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ أَصْلِهِ لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى غَيْرِهِ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ وَأَطْلَقَ كَالْأَكْثَرِينَ الْحُكْمَ فِي الْإِلَهِ وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِهَا ظَاهِرًا وَيَتَوَقَّفُ بَاطِنًا عَلَى إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اللَّهِ وَأَوْثَانِهِمْ انْتَهَى وَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي وَاَلَّذِي أَعْبُدُهُ أَوْ أُصَلِّي لَهُ أَوْ أَسْجُدُ لَهُ أَوْ نَحْوِهَا
(وَمَا لَا يَخْتَصُّ) بِاَللَّهِ (وَهُوَ لِلَّهِ أَغْلَبُ كَالْجَبَّارِ وَالْحَقِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْبَارِئِ) التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ زِيَادَتِهِ (وَالْقَادِرِ وَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالرَّحِيمِ) وَالرَّبِّ (لَا يَنْصَرِفُ عَنْ الْيَمِينِ إلَّا بِنِيَّةٍ) بِأَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْ الْيَمِينِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ وَقَدْ نَوَاهُ (وَكَذَا قَوْلُهُ وَحَقِّ اللَّهِ وَحُرْمَتِهِ بِالْكَسْرِ) لَا يَنْصَرِفُ عَنْ الْيَمِينِ إلَّا بِنِيَّةٍ لِذَلِكَ وَخَرَجَ بِالْكَسْرِ وَالْمُرَادُ الْجَرُّ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ يَمِينًا إلَّا بِنِيَّتِهَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ فِي وَحَقِّ اللَّهِ (أَمَّا الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَ) عَلَى (غَيْرِهِ سَوَاءٌ) أَيْ مُسْتَوِيًا (كَالْحَيِّ وَالْمَوْجُودِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَرِيمِ وَالْغَنِيِّ فَكِنَايَةٌ) إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ نَوَاهُ (وَمِنْهُ وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ وَالْعَلِيمُ وَالْحَكِيمُ)
(وَيَنْعَقِدُ) الْيَمِينُ (بِقَوْلِهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ) وَنَحْوِهَا مِنْ سَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ (إلَّا إنْ أَرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ وَبِالْقُدْرَةِ الْمَقْدُورَ وَبِالْحَقِّ الْعِبَادَاتِ) وَبِالْعَظَمَةِ مَا يَأْتِي وَبِالسَّمْعِ الْمَسْمُوعَ وَبِالْبَصَرِ الْمُبْصَرَ فَلَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا أَيْ مَعْلُومَك وَيُقَالُ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَيْ مَقْدُورِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَمَعْلُومِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ وَخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ صِفَتَيْ الذَّاتِ وَالْفِعْلِ أَنَّ الْأُولَى مَا اسْتَحَقَّهُ فِي الْأَزَلِ وَالثَّانِيَةَ مَا اسْتَحَقَّهُ فِيمَا لَا يَزَالُ دُونَ الْأَزَلِ يُقَالُ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ وَلَا يُقَالُ رَزَقَ فِي الْأَزَلِ إلَّا تَوَسُّعًا بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْأَمْرُ (وَكَذَا) قَوْلُهُ (وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ) وَبَقَائِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا ظُهُورَ آثَارِهَا عَلَى الْخَلْقِ (فَقَدْ يُقَالُ) فِي ذَلِكَ (عَايَنْت عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ) وَعِزَّتَهُ وَجَلَالَهُ (وَيُرَادُ مِثْلُ ذَلِكَ) وَقَوْلُهُ وَحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ مُكَرَّرٌ
(وَقَوْلُهُ وَكَلَامُ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَقُرْآنِهِ يَمِينٌ) كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ (وَكَذَا) قَوْلُهُ (وَالْمُصْحَفِ وَلَوْ أَطْلَقَ) بِأَنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ حُرْمَتَهُ أَوْ حُرْمَةَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ أَوْ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ فَكَانَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (لَا إنْ أَرَادَ) بِهِ (الرَّقَّ وَالْجِلْدَ) أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَا يَكُونُ يَمِينًا (وَلَوْ أَرَادَ بِالْقُرْآنِ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ) أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ بِالْكَلَامِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ (لَمْ يَنْعَقِدْ) يَمِينُهُ
(وَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ) أَوْ حَلَفْت (أَوْ أُولِي) أَوْ آلَيْت (أَوْ أَقْسَمْت) بِاَللَّهِ (فَيَمِينٌ وَلَوْ أَطْلَقَ) ؛ لِأَنَّهُ عُرْفُ الشَّرْعِ قَالَ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: ١٠٩] (فَإِنْ قَالَ أَرَدْت) بِالْمُضَارِعِ (الْوَعْدَ) بِالْحَلِفِ (وَ) بِالْمَاضِي (الْإِخْبَارَ) عَنْ حَلِفٍ مَاضٍ (قُبِلَ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَوْ فِي الْإِيلَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْلُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَمْ أَقْصِدْ الْيَمِينَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ هُنَا ادَّعَى مَا يُوَافِقُهُ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ مِنْ أَقْسَمْت أَوْ أُقْسِمُ أَوْ نَحْوِهِ بِخِلَافِهِ
ــ
[حاشية الرملي الكبير]
فَإِنْ قُلْت قَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الرَّفِيعُ وَفِي التَّنْزِيلِ {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: ١٥] وَالرَّفِيعُ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ لَكِنْ قَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِإِرَادَتِهِ فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَيْهِ قُلْت كَيْفَ يُعْمَلُ بِالنِّيَّةِ فِي ذَلِكَ مَعَ اقْتِرَانِهِ لَفْظًا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْجَنَابُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّفِيعِ وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَيْنَا فِيهِ الْخِلَافَ فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ وَالْمَوْجُودِ وَنَحْوِهِمَا أَمَّا بَعْدَ أَنْ قَرَنَ بِهِ مَا يُنَافِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَعْمَلَ النِّيَّةُ الْمُضَادَّةُ لِلَّفْظِ وَقَوْلُهُ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَوْلَى إلَخْ كَتَبَ عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ ظَاهِرٌ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّ فَأَجَبْت بِأَنَّهَا إلَخْ هُوَ كَمَا قَالَ (قَوْلُهُ فَالْوَجْهُ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ أَصْلِهِ إلَخْ) هُوَ مَحْمَلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ قَالَ تَاللَّهِ بِالْمُثَنَّاةِ إلَى آخِرِهِ (تَنْبِيهٌ)
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ كَلَامُ الْمَحَامِلِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّالِبِ الْغَالِبِ يَمِينٌ صَرِيحَةٌ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ الْحَلِفَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ تَرِدْ التَّسْمِيَةُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْأَصْحَابُ ذِكْرَهُمَا فِي الْأَيْمَانِ لِيَقَعَ الرَّدْعُ بِهِمَا لِلْحَالِفِ وَفِي مُشْكَلِ الْوَسِيطِ فِي بَابِ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى جَوَازُ إطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ
(قَوْلُهُ أَمَّا الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إلَخْ) اسْتَفَدْنَا مِنْ كَلَامِهِمْ هُنَا جَوَازَ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِهِ أَمَّا الْمُخْتَصُّ بِهِ فَيَحْرُمُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (قَوْلُهُ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ إلَخْ) إذْ لَا تَكْفِي نِيَّةُ الْيَمِينِ اتِّفَاقًا
(قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ إلَخْ) لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الذَّاتِ وَغَيْرِهَا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ (قَوْلُهُ وَبَصَرِهِ) أَيْ وَحُرْمَتِهِ (قَوْلُهُ وَنَحْوِهَا مِنْ سَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ) الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ كَكَوْنِهِ تَعَالَى أَزَلِيًّا وَأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَهِيَ كَالزَّائِدَةِ عَلَى الذَّاتِ وَمِنْهَا السَّلْبِيَّةُ كَقَوْلِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَمْ أَرَ فِيهَا شَيْئًا وَالظَّاهِرُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ ر
(قَوْلُهُ وَكَذَا وَالْمُصْحَفِ) أَيْ وَالْقُرْآنِ وَكَتَبَ أَيْضًا إذَا حَلَفَ الْمُسْلِمُ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ بِالْإِنْجِيلِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ مَوْضِعِ الْيَمِينِ مِنْ تَعْلِيقِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَنْسُوخَةُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّهُ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِقِرَاءَتِهِ وَالصَّحِيحُ لَا يَحْرُمُ وَتَبْطُلُ وَبِهِ يَقْوَى عَدَمُ الِانْعِقَادِ لِانْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ (قَوْلُهُ فَكَانَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ) وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَحْسَنَ التَّحْلِيفَ بِالْمُصْحَفِ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَحْلِفْ بِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ بِالْقُرْآنِ الْخُطْبَةَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: ٢٠٤] (قَوْلُهُ وَالصَّلَاةَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: ٧٨]
(قَوْلُهُ قَالَ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: ١٠٩]