قال علماؤنا: في هذا الحديث دليل على وجوب التَّطَوُّع إذا شُرِعَ فيه؛ لأنّه استثناءٌ من الوَاجِبِ، فيقتضي استثناؤُهُ أنّ يكون من جِنْسِهِ على حُكمِ الاستثناءِ وقد اختلفَ العلماءُ في ذلك، وبيانُه في موضعه إنّ شاء الله.
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي في مثل هذا النّوع من الاستثناء؛ كنتُ يومًا بالمسجد الأقصى - طَهرَهُ اللهُ- فجاءَ رجلٌ، فسأل عن حالف قال: امرأتي طالقٌ إنّ أَكَلَت من طعامكَ إلَّا هذا الرّغيف، ثمّ تركه ولم يأكله.
فاختلفَ المفتونَ في ذلك:
فمنهم من قال: يحنثُ، لقوله عليه السّلام للأعرابي:"إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" فهذا تطوَّع لزمه.
ومنهم من قال: إنّ قوله عليه السّلام: "إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" لا يلزم، فلم يلزمه حنثٌ.
والّذي عندي أنّه لا يلزمه أكل الرّغيف؛ لأنّ ما بعده مرتبطٌ بما قَبْلَهُ، ولم يكن الأكلُ واجبًا حتّى يكون أكل الرّغيفِ المُسْتَثْنَى واجبًا، إنّما كان الأكل مباحًا، فيمينُهُ حَرَّمَ على نفسه الأكل، إلَّا هذا الرّغيف فإنّه أَبْقَاهُ على الإباحة، فإن شاء أَكَلَهُ وإن شاء تَرَكَهُ.
الفائدة الحادية عشرة:
قال علماؤنا: في هذا الحديث دليل على فَرْضِ صلاة الجمعة، فلو كانتِ الجمعةُ نَفْلًا لوجبت صلاة الظُّهْر.
الفائدة الثّانية عشرة:
في هذا الحديث: دليلٌ على أنّ الجمعة بَدَلٌ من الظّهر، وقد اختلف النّاس في البَدَلِ منها، والأصلُ ما هو اختلاف متباينٌ (١). بيانُه في كتاب الجمعة.
والصّحيحُ عندي أنّ الظُّهرَ أصلٌ والجمعةَ بَدَلٌ، ويُرَكَّبُ على هذا فرعٌ وهو: إذا صلّى الظُّهْرَ بنيَّةِ الجمعة، والجمعةَ بنيَّةِ الظّهر، اختلف علماؤنا في تفصيله، وأرادوا أنّ يُخرِجُوه على هذا الأصل وليس له به تعلُّق، على ما بَيَّنَاهُ في كتاب الجمعة.
الفائدة الثّالثة عشرة:
بدأ له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بصيام رمضان قبل الزَّكاةِ، والزَّكاةُ أَوْجَب من رمضان في مشهور الأقوال بِفعْلِ النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - جعلَ ذلك؛ لأنّ رمضان يلزم كلّ أحَدٍ، والزّكاة إلَّا من له
(١) ف: "والأصل ما فيه اختلافًا متباينًا" والعبارة في النُّسختين قلقة.