للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الخامسة (١): في المتناجي

اختلف العلماء في أيِّ العملين (٢) أفضل: التّناجي سرًّا مع الله، أم الجَهْر؟ لما في ذلك من تَضَاعُف الأَجْر في تَذْكِرَةِ الغَافِلِ وطَرْدِ العَدُوِّ، وما حَكَمَ به النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - بينهما، فإنّه لم يترك أبا بكرِ على صفته، ولا عمر، وقال لهذا: ارْفَعْ صوْتَكَ قليلًا حتّى يقتدي بِكَ من سَمِعَكَ، وقال لعُمَر: اخْفِض من صوتكَ قليلًا لئَلّا يتأذَّى بك (٣) من يحتاج إلى النّوم (٤)، وهذا إنّما كان في حقِّ أبي بكرِ للقَطْع على الخلوص بنيته (٥)، وسلامَتِه عن الرِّياء، وتَصْدِيقِه له في (٦) قوله: "أَسْمَعْتَ مَنْ نَاجَيتَ" وأمّا غيره فالسِّرُّ له أفضل؛ لأنّه أقرب له إلى الخلاص وأَسْلَم من الآفات.

وقد ثبتَ عن عائشة في الصّحيحِ؛ أنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - ربّما أَسَرَّ في قِرَاءَتِهِ، ورُبّمَا جَهَرَ، فقال الراوي -وهو عبد الله بن قَيس-: الحمدُ لله الّذي جعلَ في الأَمْرِ سَعَةً (٧). ورواه غيره عنها. فَيَقْرَأ كُلُّ أحد بما قدر عليه من نشاطه وكسله، وبما سَلِمَ له من إخلاصه أو خَوْفِه الرِّياء والتَّصَنُّع على نفسه.

وسمعَ (٨) سعيد بن المسيِّب ذات ليلةٍ في مسجدِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عمر بن عبد العزيز يجهَر بالقراءة في صلاته- وكان صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ - فقال لغلامه: اذهب إلى هذا المصلِّي فَأْمُرْهُ أنّ يخفضَ من صوته". فقال الغلام: إنّ المسجدَ ليس لنا وإنّ للرَّجُلِ فيه نَصِيبًا. فرفَعَ سعيد صوته (٩)، وقال: أَيّها الرَجُلُ المُصَلِّي، إنّ كنتَ تريدُ اللهَ بصلاتِكَ فاخفض من صوتك، وإن كنتَ تريدُ الدُّنْيَا والنّاس، فإنّهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئًا. فسكتَ عمر وخَفَّفَ ركعته، فلمّا سلَّمَ أخذَ نعليه وانْصَرَفَ وهو يومئذٍ أمير المدينة (١٠).


(١) انظرها في العارضة: ٢/ ٢٣٨ - ٢٤٠.
(٢) في العارضة: "المقامين".
(٣) غ: "به".
(٤) غ: "القيام".
(٥) في العارضة: "خلوص نيّته".
(٦) "في" زيادة من العارضة.
(٧) أخرجه التّرمذيّ (٤٤٩) وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(٨) من هنا إلى آخر المسألة منتقاة من إحياء علوم الدِّين: ١/ ٢٧٨ - ٢٧٩ بتصرّف.
(٩) في النّسختين: "صوته سعيد" والمثبت من الإحياء.
(١٠) أورده الغزالي في إحياء علوم الدِّين: ١/ ٢٧٨، وسكت عنه العراقي في المغنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>