للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثّاني: إنّما استعاذ من الفقر المريب (١).

وقيل: إنّما استعاذَ من فَقرٍ لا يوجد معه قُوت.

وقيل (٢): أراد فَقرَ النَّفْسِ.

وقيل: الفَقْرُ من المال الّذي يُخْشَى على صاحبه إذا اسْتَوْلَى عليه نسيان

الفرائضِ وذِكْر الله، لما جاء في ذلك من الآثار: "اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بكَ من فَقْرٍ يُنْسِنِي

وغِنًى يُطْغِيني" (٣) وهذا التّأويل يدلُّ على أنَّ الكَفَافَ أفضل من الفقر ومن الغِنَى؛ لأنّ

للفقر والغنى بَلِيَّتَانِ يختبرُ اللهُ بهما عبادَهُ (٤).

وقال قومٌ: أراد به الفقر من الحَسَنَاتِ، وهذا مُزَيَّفٌ، لقوله: "وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ" فيكون هذا الكلام مُكرَّرًا، لا يفيدُ.

والدَّليلُ على القول الأوّل- قوله: "اللَّهُمَّ اجْعَل رِزْقَ آل محمّد قوتًا" (٥).

وقالت الصُّوفيَّهَ إنّما استعاذَ مِنْ فقرِ النَّفْسِ؛ لأنّ الفقرَ ينقسمُ أيضًا على ثلاثة أقسام:

القسمُ الأوَّل: وهو فقرُ الخَلِيقَةِ إلى الله تعالى.

القسمُ الثّاني: الفقرُ بمعنى عدم الإملاك، وقد تقدَّم معناهُ.

القسمُ الثّالث: هو فقر النَّفْسِ، وهو الّذي استعاذَ منه رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-.

وأمّا الفقر الّذي يكون صاحبه مستوجبًا لدُخولِ الجنَّة قبلَ الأغنياء بخمس مئة عام (٦)، فسئل الجُنَيْد عن ذلك فقال: إذا كان الفقيرُ معاملًا للهِ بقَلْبِه، موافِقًا له فيما منَعَهُ من الدُّنيا، حتّى يعدّ الفقرَ نعمة من الله تعالى عليه، يخاف زوالها عنه كما يخاف الغَنِيُّ زوال النِّعمة عنه، وكان محتسبًا راضيًا باختيار الله تعالى له الفقر، مستغنيًا بِرَبِّه


(١) غ: "الرب".
(٢) من هنا إلى آخر الفقرة الثّانية مقتبس من تفسير الموطّأ للبوني: ٤٠/ أ.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٢٩٣٨٤) عن أبي بربدة؛ أنّ دواد النّبيّ -عليه السّلام- قال ... الأثر.
(٤) هنا ينتهي النقل من تفسير البوني.
(٥) أخرجه البخاريّ (٦٤٦٠)، ومسلم (١٠٥٥) من حديث أبي هريرة.
(٦) كما ورد في الحديث الّذي أخرجه ابن أبي شيبة (٣٤٣٩٢)، وأحمد: ٢/ ٢٩٦، وابن ماجه (٤١٢٢)، والترمذي (٢٣٥٣)، وأبو يعلى (٦٠١٨)، وابن حبّان (٦٧٦) من حديث أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>