للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"يقولُ: عَبْدِي مرضتُ فلم تَعُدْنِي، وجعْتُ فلم تُطعِمْنِي، وعَطشتُ فلم تَسْقِنِي" وهذا لا يجوزُ على اللهِ تعالى بحالٍ، ولكن شرف هؤلاء بأن عَبَّرَ عنهم كذلك.

وقولُه: "يَنْزِلُ رَبُّنَا" عَبَّرَ به عن عَبْدِهِ ومَلَكِهِ الّذي نَزَلَ بأمْرِه بِاسْمِه، فيما يُعْطِي من رحمته ويَهب من كَرَمِهِ ويفيض على الخَلْقِ من عَطَائِه، قال الشّاعر (١):

ولَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ المُكَرَّمِ

والنُّزولُ قد يكون في المعاني والأجسام كما تقدَّمَ بيانُه، والنُّزولُ الّذي أخبر اللهُ عنه إنْ حَمَلْتَهُ على أنّه جسمٌ فذلك مَلَكُهُ ورسولُه وعَبْدُهُ. وإن حملته على أنّه كان لا يفعلُ شيئًا من ذلك، ثمّ فَعَلَهُ عند ثُلُثِ اللَّيْلِ فاستجابَ (٢) وغَفَر وأَعْطَى، وسَمَّى ذلك نزولًا عن (٣) مرتبة إلى مرتبة، وصِفَةٍ إلى صِفَةٍ، فتلك عربيَّةٌ مَحْضَةٌ خَاطبَ بِهَا أَعرف منكم وأعقل وأكثر توحيدًا. وأقلّ بل أعدم (٤) تَخلِيطًا.

قالوا بجَهْلِهِم (٥): لو أراد نزول رحمته لما خصّ بذلك الثُلُثَ من اللَّيل؛ لانّ رحمته تنزل باللّيلِ والنَّهَارِ.

قلنا: هي باللَّيلِ، وفي يومِ عَرَفة، وفي ساعة الجُمُعَة، فيكونُ نزولُها باللَّيلِ أكثر، وعطاؤُها أَوْسَع، وقد بَيَّنَ اللهُ ذلك في قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (٦).

قالوا: لا حُجَّةَ لنا في التّأويل؛ لأنَّ السَّلَفَ قالوا في هذه الأحاديث وأمثالها: أَمِرُّوها كما جاءَت، فلا تُتَأَوَّلُ.

قلنا: هذه جَهَالَة عظيمةٌ؛ لأنّه قد اشتهرَ التَّأويِلُ في ذلك عن السَّلَفِ، أمّا مالكٌ - رحمه الله - فقد بَدَّع السَّائل عن أمثاله، وصَرَفهُ عن إِشكَالِهِ، ووقَفَ عند الإيمانِ به، وهو لنا أفضل (٧).


(١) هو عنترة بن شدّاد، والبيتُ في ديوانه: ١٩١.
(٢) غ، جـ: "من استجابة" والمثبت من العارضة.
(٣) جـ: "على".
(٤) غ، جـ: "أعظم" والمثبت من العارضة، وقد علّم ناسخ جـ على الكلمة بعلامة الخطأ، إلّا أنّه عجز عن الإتيان بالصّواب.
(٥) انظر هذا القول في الاستذكار: ٨/ ١٥٢، فالمؤلِّفُ لا زال يَتَتَبَّعُ- من أَسَفٍ- أقوال ابن عبد البرّ بالنّقض والتّزييف.
(٦) آل عمران: ١٧ وهنا ينتهي الكلام عن النزول في العارضة.
(٧) أورد البوني في تفسير الموطّأ: ٤٠/ عن ابن وضاح أنّه قال: "سألت يحيى بن مَعِين عن حديث التنزّل، =

<<  <  ج: ص:  >  >>