للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا يدلُّ على أنّ الكراهية لِلِّقاء ليس كراهية الموت، إنّما هو كراهية النُّقْلَة من الدُّنيا إلى الآخرة.

وقد مدحَ اللهُ أولياءَهُ بذلك فقال: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (١) فدلَّ أنّ الصِّدِّيقينَ يُحِبُّون الموتَ واللِّقاء، كما قال حُذَيْفَة بن اليَمَان في مَرَضِهِ الّذي مات فيه، سُمِعَ وهو يقول: مرحبًا بحبيبٍ جاءَ على فَاقَةٍ، فالمؤمنُ إذا نظر وعايَنَ ما هنالك من النَّعيم تمنّى اللِّقاء، وإذا عاينَ ما هنالك الكافر من العذاب والشّقاء لم يتمنّه.

قال بعضهم (٢) في قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (٣) قال: معاينة مَلَك الموت بالأمر الجَسِيمِ والهَولِ العظيمِ، أو النّعيم المقيم.

وقال الحسن: {نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (٤) قال: معناه: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين (٥).

وروي (٦) عن ابن جُرَيج في قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (٧) قال: عند الموت يعلم ما له من خير، ويعلم ما له من شرّ.

اعتراض (٨):

فإن قيل: فما معنى كراهية موسى في الموت حِينَ صَكَّ الْمَلَكَ فَفَقَأَ عَيْنَه (٩)؟

قلنا: لم يكن هذا من موسى كراهية في الموت، وإنّما كان غضَبًا من موسى لسُرعةِ غَضَبِه، وما كان غَضَبُهُ قطُّ إلَّا في الله، لا لمعنى من معاني الدّنيا.

وقال علماؤنا: إنّما غضب لأنّه كان عنده أنَّ نبيًّا لم يُقبَض قطُّ حتَّى يخيَّر، فلمّا جاء بغير تخْيِيرٍ استنكر ذلك، فأدركته حميّة الآدميّة.

وقال بعضُ علمائنا: إنّما كره موسى الموت؛ لأنّه كان يحبّ الموت في


(١) الجمعة:٦.
(٢) جـ: "قال بعض العلّماء".
(٣) سورة ص: ٨٨.
(٤) سورة ص: ٨٨.
(٥) أورده ابن عبد البرّ في الاستذكار: ٨/ ٣٦٤.
(٦) رواه الزّنجي مسلم بن خالد عن ابن جريج، كما نصّ علي ذلك ابن عبد البرّ في الاستذكار: ٨/ ٣٦٤.
(٧) القيامة: ١٣.
(٨) انظره في القبس: ٢/ ٤٣٣.
(٩) أخرجه البخاريّ (١٣٣٩)، ومسلم (٢٣٧٢) من حديث أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>