واعلم أنّ مذهب أهل الحقّ في القضاء والقَدَرِ والتوكُّلِ والطَّلَب وخَلْقِ الأفعالِ وإرادة الكائنات منتشرٌ، ولا يخرجُ شيءٌ من عِلْمِهِ وقضائه، وقُدرَتِهِ وإرادته ومشيئته. ولم نتعرَّض لاستيفاء هذه التّرجمة الآن. إنّما نذكر في هذا الكتاب أحكامًا ظاهرة قريبة من العقول لقرب الفائدةُ على النّاظر.
فاعلم أوّلًا أنّ كلّ ما يجري في العالَمِ من خيرٍ وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وإيمان وكفرٍ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، وكذلك لا يطيرُ طائرٌ بجناحَيهِ ولا يدُبُّ حيوانٌ على بطنه أو رِجلَيهِ، ولا تسقطُ ورقةٌ إِلَّا بعلمه، ولا تتصرّف بعوضة إِلَّا بقضائه وقَدَرِهِ ومشيئته. كما لا يجري شيءٌ من ذلك إِلَّا وقد سبق عِلمُهُ به.
واعلم أنّ القُدْرَةَ والطَّلَبَ لا يتنافيان، والتوَكّلَ والكسبَ لا يتضادّان، وذلك أنّ تعلمَ أنّ كلَّ ما قَضَى الله خالِقُنا في القضاءِ والقَدَرِ وَافَقَنَا في العلم، فَرُبَّ أمر قَدَّرَ الله وصوله إليك بغير طَلَبٍ وهو واصلٌ إليك، وَرُبَّ أمرِ قَدَّرَ الله وصوله إليك بغير طلب فلا يصل إليك إِلَّا بالطَّلَبِ، والطَّلَبُ أيضأ من المقدور، ولا فرق بين الأمر المطَلوب وبين الطَّلبِ في أنّهما مُقَدَّرَانِ. فمن هاهنا قلت: إنهما لا يتنافيان.
وكذلك التوكّل مع الكسب؛ لأنّ التوكّلَ محلّه القلب، والكسب محلّه الجوارح، ولا يتضادّ شيئان في مَحَلَّينِ. فأحسن ما يتحقّق العبد: أنّ التّقدير من قِبَلِ الله تعالى، وإن تَعَسَّرَ شيءٌ فبتقديره، وإن اتّفق فبتيسيره.
تنبيه:
واعلم أنّ القَدَرَ سبب الطَّلَب، والطَّلَب سبب القَدَر، فكُّل واحدٍ منهما مُعِينٌ