للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تكملة (١):

وقد ذهب بعضُ النَّاس ممَّن ينتحلُ الحديثَ إلى أنَّ الجُنُبَ إذا عدم الماءَ يتيمَّم، ويتوضَّأ إذا وَجَدَهُ ولم يَقدر على مسَّه، قياسًا على ما رُوِيَ عن عمر وابن العاص؛ أنَّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - أَمَّرَهُ على جيش ذات السّلاسل، وفي الجيشِ نَفَرٌ من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطّاب، فاحتلم عمرو بن العاصي في ليلةٍ شديدةِ البَرْدِ، فأشفَقَ أنّ يموتَ إنِ اغتَسَلَ فتوضَّأ، ثم أمَّ أصحابه، فلما قَدِمَ، تَقَدَّم عمر بن الخطّاب فشكا عمرو بن العاصي حتّى قال: وأَمَّنَا جُنُبًا، فأعرضَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - عن عمر بن الخطّاب. فلمّا قدِمَ عمرو بن العاصي دخلَ على رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم - فجعل يُخْبِرهُ بما صنع في غَزَاتِهِ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: " أَصَلَّيتَ جُنُبًا يا عمرو؟ " فقال: نعم يا رسولَ الله، أَصَابَنِي احتلامٌ في ليلة باردة لم يمرَّ على وجهي مثلها قطُّ، فخيَّرتُ نفسي أنّ أغتسل فأموت، أو أقبلَ رخصةَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فقبلتُ رخصةَ اللهِ، وعلمتُ أنّ اللهَ أرحم بي، فتوضَّأْت ثمّ صلّيْتُ، فقال رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -: "أَحْسَنْتَ، ما أحببتُ أنَّكَ تركتَ شيئًا صنعته، لوكنتُ في القوم لصنعتُ كما صنعتَ" (٢). ممّن كان يذهب إلى هذا أحمد بن صالح (٣)، وقال: إنَّ الوضوء فوق التَّيمُّم، وليس ذلك بصحيحٍ؛ لأنّ الله جعلَ التَّيمُّمَ بَدَلَ الغُسْل من الجنابة، ولم يجعل الوُضُوء بَدَلًا منه، فليس بأرفع منه في ذلك، وإنّما هو إرفع منه في الحَدَثِ الأصغر حيث جُعِلَ بَدَلًاَ مِنْهُ.

قال الإمام الحافظ (٤): أمّا الحديث، فيحتملُ أنّ يكون ما كان من عمرو بن العاصي قبل نزول آية التَّيمُّم، والحُكمُ حينئذٍ في الجُنُبِ إذا عدمَ الماء أنْ يصلِّي بلا غُسْلٍ، فلمّا سقط عنه فَرْض الاغتسال بالخَوْفِ على نفسه، صار في حُكمِ مَنْ لا جَنَابَةَ


(١) هذه التكملة مقتبسة من المقدِّمات الممهّدات: ١/ ١١٥ - ١١٦.
(٢) رواه الطحاوي في مشكل الآثار كما في المعتصر من المختصر لأبي المحاسن الحنفي: ١/ ١٦.
(٣) هو أبو جعفر المصري، المعروف بابن الطّبري، إمام حافظ، وفقيه نظّارٌ (ت.٢٤٨) انظر أخباره في ترتيب المدارك: ٤/ ٣٨ - ٤١، وسير أعلام النبلاء: ١٢/ ١٦٠ - ١٧٧، وجمهرة تراجم فقهاء المالكية: ١/ ٢١٣.
(٤) الكلام موصول لابن رشد الجدّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>