*. . . وهذا التَّباعُدُ بين المُحَدِّثين والفُقهاء، والذي أشار إليه الخَطَّابِيُّ لا زال إلى السَّاعة قائمًا، وذلك بسبب تشابُك بعضِ القَوَاعد الأُصولِيَّة بينهم، مثلِ اشتراطِ ألا يكُونَ الحديثُ شاذًّا، ومثلِ زيادَةِ الثِّقَةِ، ونحوِ هذا. فالصَّحيحُ ألا يَنظُر الفقيهُ إلى الحديثِ بعَينِ الاعتِبَارِ، إلا إذا قَرَّر المُحَدِّثُون صِحَّتَه. والجَامِعُون بين هَذَين العِلمَين كان كثيرًا في الأزمان القَدِيمَةِ، ثُمَّ غَلَبَت "لَوثَةُ" المُختَصَرَات في المُتأخِّرين، حتَّى صارت بعضُهَا بسبب الإيجاز تَبلُغُ حدَّ الأَلغَاز، وشَرَعَ أهلُ العِلمٍ يشرَحُونَ هذه المُختَصَرات، واختَلَفت أراؤُهُم في قَصدِ المُختَصِر، وكَثُرَت الاعتراضاتُ على التَّعرِيفَات مع تَطرِيق الاحتمالاتِ، وهكذا حتَّى فَقَدَت العُلُومُ رَوْنَقَهَا وقلَّ انتفاعُ الطَّلَبة بها. وكان بابُ الاحتجاجِ بالحديث الضَّعيف من هذا القَبِيلِ. وخُذ الحديثَ المُرسَلَ مثلًا، فالذي كان سائدًا في زمان التَّابِعِين ومَن بَعدَهُم بقليلٍ، أنَّ الحديثَ المُرسَلَ حُجَّةٌ في الدِّين، وكان ذلك لعُلُوِّ الأسانِيدِ وقِلَّةِ الأوهامِ، حتَّى ادَّعًى الطَّبَرِيُّ أنَّ التَّابِعينَ أَجمَعُوا على قَبُول المَراسِيل، وظَلَّ الأمرُ هكذا إلى رَأسِ المِئَتَينِ، وذَهَب إلى هذا القَولِ أبو حَنِيفَةَ، ومالكٌ، وهو روايةٌ عن أحمد. ولمَّا تكلَّمَ الشَّافعِيُّ في عدم حُجِّيَّة المُرسَل، تابَعَهُ النَّاسُ كما قال أبو داوُد، وصار القَولُ السَّائدُ عند جماهير المُحَدِّثِين وكثيرٍ من الفُقَهَاء والأُصُوليِّين أن المُرسَلَ ليس بحُجِّةٍ، ونَقَلَهُ مُسلمٌ في "مُقدِّمة صحِيحِه"، وكذلك قال الرَّازِيَّانِ أبو حاتِمٍ وأبو زُرعَةَ كما في مَطلَع "المَراسيل"(ص/ ٧) لابن أبي حاتِمٍ: أنَّهُ لا يُحتَجُّ بالمَراسيل، ولا تَقُومُ الحُجَّة إلا بالأسانيد الصَّحِيحَةِ، ووَضَعَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ ضوابطَ لقَبُول المُرسَل تَجِدُها في "الرِّسالة"(ص / ٤٦٢ - ٤٦٥).
* فهذا النَّوعُ من الأحاديثِ -أعني: المُرسَلَ- هو أَكثَرُ الأنواع وَقَعَ فيه