[المحرمات من النساء بالرضاع]
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:٢٣] ، وكم رضعة أرضعتك حتى تحرم عليك؟ هنا بحوث نذكرها بسرعة: الأول: ما هي عدد الرضعات المحرمات؟ والثاني: ما هي صفة الرضاع المحرم؟ والثالث: ما هو وقت الرضاع المحرم؟ والرابع: يتعلق بمسألةٍ يسميها العلماء: لبن الفحل.
أما عدد الرضعات المحرمات، فقد تقدم الكلام عليها بما حاصله: أن الجمهور على أنها رضعة واحدة، لقوله تعالى: ((وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)) [النساء:٢٣] ولم يذكر عدداً: وفريق من أهل العلم يقول: إن الذي يحرم هو ثلاث رضعات مشبعات لقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) ، قالوا: إذاً الذي يحرم ثلاث، والقول الثالث: أن الذي يحرم خمس رضعات لما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن فنسخَ بخمس رضعات معلومات يحرمن، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن) .
والذي يظهر من هذه الأقوال أن أصحها -والله أعلم- قول من قال: إن الخمس رضعات هي التي تحرم، فهي خمس رضعات على ما اختاره فريقٌ من أهل العلم.
ووقت هذه الرضعات في الصغر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الرضاع ما فتق الأمعاء وأنبت اللحم ... ) ، وقال عليه الصلاة والسلام (إنما الرضاعة من المجاعة) ، أي: الرضاعة المعتبرة هي التي تسد الجوع، ولا يكن هناك طعامٌ غيرها، وليس هناك بديل عنها.
وقد رأت أم المؤمنين عائشة أن رضاع الكبير يحرم، مستدلة بحديث سهلة: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن سالماً مولى أبي حذيفة كان مما حيث تعلم -تربى في بيت أبي حذيفة - وإنه شب وبلغ مبلغ الشباب، وإني أرى في وجه أبي حذيفة الكراهية من دخول سالم علينا، فقال: أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه، قالت: كيف أرضعه وهو ذو لحية يا رسول الله؟! قال: قد علمت، أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه؛ فأرضعته فأذهب الله ما في وجه أبي حذيفة من الكراهية) .
فكانت أم المؤمنين عائشة تستدل بهذا الحديث على أن رضاع الكبير يحرم، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها شخصٌ أمرت إحدى قريباتها أن ترضعه فيكون محرماً لـ عائشة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، كما في سنن النسائي بسند صحيح قلن: (والله لا يدخل علينا أحدٌ أبداً بتلك الرضعة، إنما هذا شيءٌ خاصٌ بـ سالم) .
فالجمهور منعوا من إرضاع الكبير، وقالوا: مطلقاً، إن رضاع الكبير لا اعتبار له على الإطلاق، وأم المؤمنين عائشة رأت جوازه على الإطلاق، وتوسط قومٌ فقالوا: له اعتبار عند الضرورات، والجمهور استدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:٢٣٣] ، قالوا: فتمام الرضاعة عند الحولين ولا اعتبار للرضاعة بما بعدها، والله أعلم.
أما صفة الرضاع المحرم: فالجمهور من العلماء على أن كل رضاع يحرم، سواء مص الصبي اللبن من ثدي المرأة، أو وضع له اللبن في كوب وشربه، أو صنع له مع طعام وخلط له مع طعامٍ وأكله، كل ذلك يحرم.
أما ابن حزم رحمه الله فتمسك بمعنى الرضاع اللغوي، فقال: لا يحرم إلا إذا مصه الطفل من الثدي، فعلى ذلك قال: لو وضع له لبن المرأة في كوب ثم شربه لا تحرم عليه المرأة، وهذا مبنيٌ على ظاهريته المشهورة، كالمسألة المشهورة عنه في البول في الماء الراكد، قال: إن النبي نهى عن البول في الماء الراكد، لكن إذا بلت في كوب وخلطت الكوب في الماء الراكد فلا حرج.
وهذه ظاهرية جلدة لا يوافق عليها أبو محمد ابن حزم بحالٍ من الأحوال، وأبشع منها ظاهريته المنقولة في مسألة استئذان البكر والثيب، يقول: إن البكر إذا طُلبت للنكاح واستأذنت فإن قالت: أنا موافقة، فالعقد باطل! وإن قالت: غير موافقة، فالعقد باطل! ماذا تقول إذاً؟! قال: تسكت؛ لأن الرسول قال: (تستأذن البكر، قيل: إنها تستحي يا رسول الله! قال: إذنها صماتها) ، فقال ابن حزم: إذا تكلمت سواء رفضاً أو إيجاباً فالعقد باطل، وهذه من الزلات الخطيرة، فلو أمعن النظر في الحديث لوجد أن فيه: أن البكر تستحي، فقال: (إذنها صمتها) ، أي: إذن التي تستحي صمتها، أما التي لا تستحي فتقول: أنا موافقة، وهذا من الشذوذ ومن الفقه البارد في هذه الجزئية، نسأل الله العافية والسلامة! لكن لا يمنع أن يكون لـ ابن حزم آراء مسددة في كثير من المسائل.
إذاً: يحصل الرضاع: سواء رضع اللبن في قدر، أو خلط بطعامٍ، أو شربه الطفل من الثدي، كل ذلك يحرم إذا انطبقت سائر الشروط.
أما مسألة لبن الفحل فقد تقدم شرحها، وصورة لبن الفحل نضرب لها مثالاً واحداً وليس على سبيل الحصر: رجلٌ له زوجتان، الزوجة الأولى أرضعت ولداً أجنبياً بعيداً عن الزوج وعن الزوجة الثانية، والزوجة الثانية أرضعت بنتاً أجنبية فهذا الولد الأجنبي لم يجتمع على الثدي مع الطفلة، إنما هو رضع من امرأة والطفلة رضعت من امرأة، لكن اللبن الذي در لهذه المرأة إنما جاء بسبب الفحل وهو الرجل، فيكون هذا الولد أخاً لتلك البنت من الأب في الرضاعة فيحرم عليها.
وهذه المسألة يسميها العلماء لبن الفحل، دليلها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيص جاء يستأذن عليها فلم تأذن له، وأبو القعيص هو زوج المرأة التي رضعت منها عائشة إذاً: أبو القعيص نفسه أبو عائشة من الرضاعة؛ لأنها رضعت من لبن زوجته، ويكون أفلح عم عائشة من الرضاعة، فجاء أفلح يستأذن على عائشة فرفضت أن تدخله البيت، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: (يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيص يستأذن أن يدخل عليَّ قال: ائذني له إنه عمك، قالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل يا رسول الله! قال: قد علمت؛ إنه عمك فليلج عليك) أي: ليدخل عليك.
تلخص من مسألة لبن الفحل: أن كل من اجتمع على ثدي المرأة فهم إخوة لبعضهم البعض من الرضاع، ولبن الفحل ينشر الحرمة والله أعلم، هذا بالنسبة لمسألة الرضاع وما يتعلق بها.
قال الله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:٢٣] ، ذكر في الآية صنفان فقط من المحرمات بالرضاعة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، والمحرم من النسب سبع، والمحرم من الرضاع كذلك سبع، فأمك من الرضاعة حرام وكذلك أختك وعمتك وخالتك وبنات الأخ وبنات الأخت.