[حكم من قذف المحصنات المؤمنات]
قال رب العزة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:٤] ، فما حكمهم؟ قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤] أي رجل يتهم امرأة بالزنا اجلدوه ثمانين جلدة، {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤] ، ثلاث عقوبات خطيرة: أولها: أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أن تسقط شهادته في الناس.
الثالث: أنه فاسق: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
فالذي يقول عن امرأة أنها زنت هذه عاقبته، فالكلمة التي يستسهلها الناس على ألسنتهم قد يجلد أحدهم بسببها ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويوصف بأنه فاسق إلا إذا جاء بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوها تزني، ورأوا ذلك كالميل في المكحلة، فإذا شهدوا بذلك الأربعة رفع عنه الحد وأقيم عليها وعلى الزاني بها الحد.
فإذا جاء رجل باثنين يشهدون معه أقيم على الثلاثة الحد، وإذا جاءنا شخص وقال: رأيت في الطريق فلاناً يزني بفلانة، فإنه يجلد ثمانين جلدة حتى وإن أقسم مليون يمين، وإضافة إلى ذلك تسقط شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وهذه الحادثة قد حصلت لبعض الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم: أبو بكرة الصحابي المشهور شهد هو وثلاثة من الصحابة على المغيرة بن شعبة أنه زنا وأن ستراً كان يستره مع المرأة فجاءت رياح وأزالت الستر، فجاء الشهود الثلاثة وتلكأ واحدٌ منهم ولم يدلِ بالشهادة الصريحة، فجلدوا الأربعة أو الثلاثة.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤] .
تقدم الكلام على صدر هذه الآية الكريمة بما حاصله: أن الذي يرمي امرأة بجريمة الزنا يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويعد من الفاسقين، فهي ثلاث عقوبات متوالية، الواحدة منها تكفي للحكم بأن هذا الفعل كبيرة من الكبائر.
فمثلاً: الجلد بمقدار ثمانين جلدة إذا أقيم على شخص فمعناه أنه ارتكب كبيرة، ورد شهادة الشخص في الناس تفيد أنه ارتكب كبيرة، وإطلاق الفسق عليه يفيد أنه مرتكبٌ لكبيرة، فاجتمعت ثلاث عقوبات، فدل ذلك على قبح هذا الذنب وكبر هذا الجرم.
وقوله: (المحصنات) من أهل العلم من قال: إن المراد بها: الأنفس المحصنة، فيدخل في ذلك الرجال والنساء، فلو قال رجل عن رجل: إنه زنى، فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وختام الآية الكريمة فيه إشارة إلى أن هناك فسق دون فسق.
فالآية وسبب نزولها -كما سيأتي إن شاء الله- في المؤمنين، فعلى ذلك: قد يكون هناك مسلم فاسق.
فقوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) منصب على المسلمين أو على الكفار، ويفيد أن هناك فسقاً غير كفر، وكما تقدم فإن قاعدة أهل السنة والجماعة: أن الفسق فسقان: فسق بمعنى الكفر، وفسق دون ذلك، قال سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤] ، فالفسق هنا كفر، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:٢٠] ، فدل على أنه كفر؛ لأن الخلود في النار لا يكون إلا للكفار.
أما الدليل على أن هناك فسقاً ليس بكفر فمنه: هذه الآية، ومنه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] .
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) ، فدل ذلك على أن هناك فسقاً دون فسق.