[تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.]
قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] فاليهود حسدوا العرب، وهم والعرب أبناء عمٍ، فأبو اليهود هو إسرائيل بن إسحاق، وإسحاق أخٌ لإسماعيل، ومن إسماعيل جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاءت كل أنبياء بني إسرائيل، فحسدت اليهود العرب على ما آتاهم الله من فضله، فكانوا يتوقعون أن يخرج النبي منهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٨٩] أي: يقولون لهم سيخرج نبيٌ نتبعه، ونقتلكم قتل عادٍ وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:٨٩] وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكان من غيرهم، فلم يكن يهودياً، بل كان من العرب {كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩] .
فالناس المحسودون هنا: هم العرب، وكلمة (الناس) قد يراد بها العموم، وقد يراد بها الخصوص، فمن مجيئها بمعنى العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:١] ، ومن مجيئها بمعنى الخصوص قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:١٧٣] ، فهنا ثلاثة أصناف من الناس، وكل صنفٍ له معنى، فالمقول لهم هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والقائلون لهم: هم أهل النفاق، والذين جمعوا لهم: هم أهل الشرك.
فالناس المحسودون هنا: هم العرب، أو هم أهل الإسلام، أو بني هاشم، والشاهد أنهم الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا منزل على النبوة، ثم الآية عامة، فكل من حسد الآخرين داخل في الآية، اللهم إلا حسد أهل الكفر وتمني زوال النعمة عنهم، فهذا له مستندات شرعية.
وهذه ثاني آية في كتاب الله تعالى ذكر فيها الحسد صريحاً، فالأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:١٠٩] .
والثانية: قوله تعالى هنا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء:٥٤] .
والثالثة: قوله تعالى في سورة الفتح: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:١٥] .
والرابعة: قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥] ، فالحسد ذكر في كتاب الله صريحاً في هذه الآيات، وذكر تلميحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:٢٧] ، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:٥] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:٥١] ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١] ، فهذه الآيات تلمح وتشير إلى الحسد.
وذكر الحسد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في جملة أحاديث، منها: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين حاسدٍ الله يشفيك) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (علام يحسد أحدكم أخاه؟) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وقيل للحسن البصري رحمه الله: أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف حين قال يعقوب عليه السلام: ((يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)) [يوسف:٥] .
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ} [النساء:٥٤] أي: ما أعطاهم الله تعالى من فضله، فإن كان كذلك {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:٥٤] ، أي: إن كنتم تحسدون العرب على ما آتاهم الله تعالى من نبوة فيهم، وكفرتم بهذا النبي من أجل أنه عربي وليس منكم، فما بالكم قد جاءت فيكم النبوة، إذ أنتم من آل إبراهيم، فمنكم من آمن ومنكم من صد؟! فلماذا لم تؤمنوا إذا كانت المشكلة التي حصلت هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من العرب؟ فإذا كانت هذه علتكم وحجتكم فهي علة داحضةٌ وحجة باطلة، فقد جاءكم أنبياء من آل إبراهيم ليسوا من ذرية إسماعيل، بل من ذرية إسحاق وإسرائيل، فما بالكم كفرتم بهم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما مات نبي خلفه نبيٌ آخر) فكذبوا بعض هؤلاء الأنبياء، وقتلوا فريقاً منهم، فاليهود أهل الغدر والخيانات كما وصفهم الله في كتابه.
ويؤخذ من عموم الآية أن على الشخص إذا رأى من أخيه المسلم شيئاً يعجبه أن يبرك كما قال تعالى حكاية عن الرجل الصالح: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٣٩] أي: إذا خشيت الحسد قل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) .
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:٥٤] ، كملك سليمان وملك داود عليهما السلام، فكان ملكاً عظيماً، وأي ملك أعظم من أن تسخر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص؟! وأي ملك أعظم من أن يفهم الشخص لغة الطير وسائر الدواب وكلها تخضع له بإذن الله عز وجل؟! وأي ملك أعظم من أن يلين الحديد في يد شخص يتصرف فيه بيديه كيف يشاء كالحبال وكالماء؟! وأي ملك أعظم من أن تقوم تسبح فتسبح الجبال معك والطير، وتسبح الدواب معك؟! ومع هذا الملك قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:٥٥] ، فكفروا بسليمان عليه السلام، وقالوا: سليمان كان ساحراً وأخضع الجن بسحره، فقال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:١٠٢] ، فإن كنتم لم تؤمنوا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم فقير، فقد جاءكم نبي مَلَك الأرض بإذن الله تعالى، وملك الدواب بإذن الله تعالى، وسخرت له الريح، ومع ذلك كفرتم به ووصفتموه بأنه ساحر، وبأنه عبّد الشياطين بأنواع من السحر والشعوذة!