للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إقامة الشهادة لله تعالى]

فيجب أن تكون شهادتك لله سبحانه وتعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:١٣٥] والقسط يطلق على العدل، فمنه قول أبي طالب في لاميته: بميزان قسط لا يخيس شُعيرة له شاهد من نفسه غير عائل {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:١٣٥] وقد روي بإسناد ضعيف (أن عبد الله بن رواحة ذهب إلى اليهود ليقضي فيهم، حيث كانت بينهم وبين رسول الله خصومة، فأرسل ابن رواحة ليحكم في القضية، فقال: يا معشر يهود! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليّ، والله يعلم إنكم أبغض خلق الله إليّ، ولكن لا يحملني حبي له وبغضي لكم على أن أقضي فيكم بغير الحق، قالوا: يا ابن رواحة بهذا قامت السماوات والأرض) فبالقسط وبالحق قامت السماوات والأرض.

فهكذا ينبغي أن تكون الشهادات، أن لا تشهد إلا بالذي رأيته، ولا تشهد بما فهمت، أنت إذا وجدت واحداً يضرب واحداً تقول: رأيت فلاناً يضرب فلاناً، ولا تقول: ضربه لأنه فعل كذا وتشهد بناءً على ظنك وتأويلاتك، فهذا لا دخل لك فيه، اشهد فقط بما رأيت لا بما علمت؛ لأن الاستنباط في الشهادة إنما هو للقضاة، فدع الاستنباط لأهله، وما عليك إلا أن تشهد بالذي رأيت فقط، وأن تحكي الذي رأيت، وأن تقول الذي سمعت، والقضاء فيه قوم أذكياء يعرفون كيف الاستنباط.

ومن قصص داود صلى الله عليه وسلم في هذا الباب مع سليمان، ورد عند ابن عساكر بأسانيد ينظر فيها: (أن في زمن داود عليه السلام كانت هناك امرأة حسناء، فجاء أربعة من الرجال كلهم من أشراف القوم، كل يراودها عن نفسها على انفراد، فرفضت الأربعة، فاتفقوا فيما بينهم أن يشهدوا عليها عند داود عليه الصلاة والسلام.

فذهبوا إلى داود وقالوا: يا نبي الله! هذه المرأة مكنت من نفسها كلباً، أي: جعلت كلباً يزني بها، وشهدوا بذلك وأقسموا الأربعة، فحكم عليها بالرجم، فخرجت من عند داود عليه الصلاة والسلام.

وكان سليمان جالساً، وسمع القضية والذي حدث فيها، فقال: انتظروا فذهب وأتى بأربعة شباب وأتى برجل آخر غير شاب ونصب قضية صورية يعني: حتى يذكر والده بالذي حدث، فالأربعة جاءوا وقالوا: إن هذا الرجل قتل كلباً لنا، والقضية أديرت مرة ثانية أمام داود عليه الصلاة والسلام؛ أدارها سليمان، والأربعة أقسموا بالله أنه قتل الكلب، قالوا: نعم نقسم بالله العظيم أنه قتل الكلب، فأخرجهم سليمان صلى الله عليه وسلم وأدخلهم أمام أبيه واحداً واحداً فسأل الأول: ما هو لون الكلب؟ قال الأول: أحمر، قال: انتظر هنا، دخل الثاني: ما هو لون الكلب؟ قال: أسود.

فاختلفوا فتبين أنهم كاذبون؛ لأن كل واحد أتى بلون جديد للكلب، فانتبه داود صلى الله عليه وسلم، وعرف أن الذي حدث خطأ، وأنه كان ينبغي أن يتحرى في هذه المسألة وخاصة وفيها رجم، ويسأل كل واحد على انفراد، ورد الحكم عليهم مرة ثانية) .

لكن هل يؤخذ بالتفريق بين الشهود دائماً؟ لا يؤخذ به دائماً؛ فقد وردت لطيفة من اللطائف يذكرها الإمام الشافعي رحمه الله يقول: شهدت أمي عند قاضٍ بمكة هي وامرأة أخرى على قضية، فالقاضي أحب أن يفرق بينهما ويسمع من كل واحدة كلامها مستقلاً، فقامت أم الإمام الشافعي وقالت: ليس لك ذلك، إن الله يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:٢٨٢] تعني: هي تذكرني إذا نسيت.

إذاً فالقاضي ليس له أن يفرق بين الشهود في كل المواطن.