وقبل البدء في تفسير قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:١٠٤] ، نتجه إلى بيان حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وعلى التفرغ لذلك: فيرى جمهور العلماء: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن جائز ولا بأس به، ومن أدلتهم على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وقد جاء ذلك في سياق قصة وهي: أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بقرية من القرى فسألوا أهلها القِرى، وهو الإكرام الذي ينبغي للضيف، فأبوا أن يقدموه لهم، فما لبث سيد هذه القرية وكبيرها أن لدغته حية أو عقرب، فجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وقال أصحابه لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن سيد هذا الحي لديغ، وفي رواية: سليم، - والعرب تقول: سليم على المريض واللديغ تفاؤلاً بالشفاء- فهل منكم من راق؟ قالوا: نعم، ولكنا سألناكم القرى فلم تقدموه لنا، فلن نرقيكم إلا أن تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم إن هم قاموا برقية هذا الشخص وشفي بإذن الله، فرقاه بعض الصحابة، وكانت لا تُعرف عنه رقية، ولا يعهد عنه أنه يرقي، فقام وقرأ عليه فاتحة الكتاب، وجمع بصاقه ورقاه، فبرأ بإذن الله، فأخذوا قطيع الغنم؛ فخرج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قطيع الغنم هذا، وقالوا: كيف نأخذ أجراً على كتاب الله؟! فتصبروا حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن حكم ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، فهذا عمدة الجمهور القائلين بجواز أخذ الأجر على تعليم القرآن.
وهذا -كما سمعتم- رأي جمهور العلماء.
وقد منع من ذلك فريق من العلماء، واحتجوا بعمومات كقوله تعالى:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الأنعام:٩٠] ، ولكن أجيب على هذا: بأن باب الدعوة إلى الله ليس كباب تعليم القرآن، فالذي يدعو إلى الله ويشترط على الناس إذا اهتدوا أن يعطوه مالاً فهذا مرتكب لجرم، ومرتكب لمحرم، أما الذي يتفرغ لتعليم المسلمين الذين هداهم الله بتعليمهم كتاب الله ويأخذ أجراً مقابل تفرغه فهذا جائز.
واستدل بعض أهل العلم الذين منعوا من ذلك بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وغيره من الصحابة أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فقلت: أجاهد بها في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا أحببت أن تتقلد قوساً من نار فاقبلها) ، لكن في هذا الحديث ضعف.
وكذلك استدل بعض من منع من أخذ الأجر على تعليم القرآن بحديث:(اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه) ، لكنه وإن حسن إسناده عند فريق من العلماء إلا أنه قد حمل بعض العلماء قوله:(ولا تأكلوا به) على أنه تبديل الحلال بالحرام والحرام بالحلال من أجل متاع زائل وعرض فانٍ، كما كان يفعل اليهود، فقد كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ونحو ذلك:(اقرءوا القرآن فإنه سيأتي قوم يتعجلونه ولا يتأجلونه) .
فالحاصل من هذا البحث السريع الموجز: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن هو رأي جمهور العلماء، وعمدة الجمهور في ذلك ما قد سمعتموه:(إن حق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وهو ثابت عند البخاري، والله تعالى أعلم.