[من فوائد الآية عدم ذكر الأشخاص بأسمائهم وتجريحهم في الخطبة]
قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] يؤخذ منه أدب يتأدب به الخطيب ويتأدب به المستمعون، فالخطيب الذي يقف على المنبر ويتناول الأشخاص بأسمائهم غير موافق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالف للشرع من وجوه: أولاً: أن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] ولم يقل: اسعوا إلى ذكر فلان وفلان، وكذلك ينسحب هذا على الإطراء الزائد على المنابر، إذا وقف شخص وجلس يمدح على المنابر أشخاصاً بأسمائهم في يوم الجمعة هذا أيضاً مخالف؛ لأننا ما أمرنا أن نذهب للاستماع إلى سباب فلان وفلان، أو إلى الثناء على فلان وفلان، فإن فعل فيكون عارضاً على حسب الحاجة إليه، ولا يكون أصلاً، إن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] فالغالب في الجمع أن يكون فيها ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر جنته وناره.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر في يوم الجمعة أياً كان هذا الشخص، فما ذكر شخصاً من الذين عاصروه من الكفار أو أهل النفاق باسمه، فأشد الناس نفاقاً وأعظمهم وهو عبد الله بن أبي ابن سلول، لما فعل فعلته القبيحة وقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عمل أمراً مؤلماً وموجعاً غاية الإيجاع والإيلام، إلا أن الرسول ما صعد المنبر وذكر يوماً واحداً أو مرة واحدة اسم عبد الله بن أبي ابن سلول، حتى إنه لما قام على المنبر في حديث الإفك قال: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً؟!) حتى إن الصحابة الذين كانوا يحضرون المجلس في مسجد الرسول ما عرفه إلا بعضهم، حتى قام سعد بن معاذ وقال: (يا رسول الله! أخبرنا من هو إن كان منا -أي: من الأوس- قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فقتلناه؛ فقام سعد بن عبادة يدافع.
الشاهد: أن الصحابة منهم من لم يكن يعرف من هو هذا الرجل، مع أنه رئيس المنافقين، ومع أنه ارتكب فرية بقذف محصنة غافلة مؤمنة عللاوة على أنها زوجة نبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن النبي ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر أياً كان هذا الشخص، وعلى هذا فأخونا الذي يقف على المنبر ذاكراً مساوئ أحد الناس يكون قد خالف الشرع، وهذا القول مني على إطلاقه وليس حباً في وزير، أو دفاعاً عن رئيس أو وزير فكل منهم له شأن ولنا شأن.
أقول: الذي يقف على المنبر ويقول في خطب الجمعة -وكان هذا متفشٍ في بعض الأزمنة-: فلانة زوجة فلان فعلت كذا وكذا وصورتها في كذا وكذا كل هذا من العبث والمخالفة للشرع التي يجهلها الخطيب ويظن أنه يحسن صنعاً وهو مسيء غاية الإساءة، بتشويشه على أفكار الناس.
ثم إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:١٤٨] وقد تقدم أن كثرة الحديث على المفاسد والمعاصي على المنابر تسبب للناس فقدان حساسية تجاه هذه المعاصي والكبائر.
تقدم أن بعض المفسرين ذكر عند قول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] قال: كنت ببلدة صغيرة لا يعرف أهلها الخمر، وكنا إذا سمعنا أن شخصاً أتى من الخارج مثلاً وشرب خمراً في البلدة، فكل البلدة بالإجماع تقاطعه، إذا تقدم يتزوج امتنعنا عن تزويجه، وإذا تقدم ليصلي لا نصلي وراءه، فلما ذهبت إلى بعض البلدان وجدت الخمر تباع في الطرقات، والسكارى يمشون في الشوارع، عندها قلَّت كراهيتي لشارب الخمر يوماً بعد يوم بعد يوم إلى أن تلاشت كراهيتي لشارب الخمر.
فكثرة الحديث في مسألة تهونها على السامعين، فمثلاً قد تستبشع إذا سمعت أن شخصاً ما زنى، ثم بتكرار الكلام في مسائل الزنا والعياذ بالله، فلان زنى فلانة زنت أصبح الأمر عندك سهلاً، فتأتي تريد أن تسمع خبراً أبشع من الزنا، فيلفت نظرك خبر آخر أن رجلاً زنى بامرأة من محارمه فتستبشع الخبر، فيضربون على هذا الوتر مرات ومرات حتى يسهل عندك الأمر، ثم يقولون: فلان زنى بامرأة واغتصبها في الطريق فتستبشع ذلك، ولهذا عيبت الصحف وانتقدت جرائد الحوادث وصفحات الحوادث التي تروج للرذيلة من حيث لا تشعر، وتنشر الفساد في الأرض من حيث لا تشعر، والرسول يقول: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) .
فتسمية الأشخاص على المنابر أمر غير محمود وغير مشروع، ونحن نحاجج من يريد أن يحاجج بأن يأتينا بأثر واحد عن رسول الله أنه سمى شخصاً واحداً على المنبر في يوم الجمعة في رواية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
فالفقه في الدين واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلب شرعي، فقد تصعد على المنبر وترتكب المخالفة، وتسب مثلاً وزير الداخلية باسمه، وبعد أن تسب وزير الداخلية تعتقل، وفي الحقيقة أنك اعتقلت أصلاً -أو أيضاً- لمخالفتك للشرع، لأنك ما وافقت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا اتبعت سنته في الهدي، وفي التصحيح والتقويم.
إذا كان هناك أمر ما مخالف للشرع فنبه على هذا الأمر المخالف للشرع لا تُمنع من ذلك أبداً، بل لزاماً عليك أن تنبه، لكن لا يلزمك أبداً ولا يتعين عليك أن تسمي الشخص باسمه، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل هدي.
ثم لعل هذا الذي قذفته يتوب، فيجد بينه وبين التوبة حائلاً وهو شريطك المنتشر في العالم كله والذي تفضحه فيه وتشهر به، قد تسب شخصاً على المنبر الآن وتلعن فيه، وتسب راقصة وتلعن فيها، والله يتوب على من تاب، فالغالب أنها تتوب، فكيف تصنع أنت بشريطك الذي شهرت بها فيه وشرحتها فيه تشريحاً؟! فتكون حينئذ سلكت سبيل الذين يصدون عن سبيل الله، وينشرون للمرأة التائبة أو للممثلة التائبة أشرطتها كي يصدونها عن سبيل الله بهذه الأشرطة الفاضحة التي أخذوها عليها، فسنة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها خير هدي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] وهذا المنع يشمل باب الذم وباب الإطراء، فلا تقف على المنبر تسبح بحمد الأشخاص، وتثني على الأشخاص، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، وقد ورد في أثر صححه البعض وضعفه آخرون: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ، فلا تسرف في الحب ولا في البغض، فالاقتصاد مطلب شرعي علمنا إياه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المغالاة في الحب تحملك على الدفاع عن المحبوب ولو بالباطل، والمغالاة في البغض تحملك على هضم الحق وإماتته الحق والعياذ بالله.
ولكن انظر إلى اتزان الرسول صلى الله عليه وسلم والرزانة والوقار، يحب ابنته فاطمة حباً جماً عليه الصلاة والسلام، وكلما دخلت عليه قبلها وأجلسها، وكلما ذهب إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، لكنها محبة منضبطة بالشرع يقول: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة سرقت لقطع محمد يدها) .
يحب أسامة بن زيد غاية المحبة، يعثر أسامة فيجرح أنفه على عتبة الباب، ويذهب الرسول يمص دم أسامة بفيه، ومع ذلك يقول لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟!) .
فالشاهد: لا تبالغ في الطعون ولا تبالغ في الثناءات، فالقصد القصد كما حث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.