(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) ، وصاحب الحوت هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بيونس صلى الله عليه وسلم في جزئية، لكن سائر سيرة يونس عليه الصلاة والسلام يتأسى به فيها، كما أن ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن التشبه بالخليل إبراهيم في جزئية، لكن سائر سيرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتأسى به فيها، فإن الله ذكر إبراهيم في طائفة من الأنبياء عليهم السلام، وقال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:٩٠] ، فأمرنا الله أن نقتدي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، لكن ثمّ جزئيات لا يقتدى بهم فيها نُص عليها في كتاب الله، كما في قوله:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}[الممتحنة:٤] ، قوله لأبيه المشرك:(لأستغفرن لك) ، والاستثناء في قوله تعالى:(إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي: لا يكن لكم أسوة في إبراهيم في قوله لأبيه المشرك: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}[الممتحنة:٤] .
لكن بُيّن السبب في آية أخرى، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:١١٤] .
الشاهد: أن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، فظاهر الآية الكريمة غير مراد؛ لأنه ليس المعنى: لا تكن كصاحب الحوت وهو ينادي ربه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:٨٧] ، فقد حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا وقعنا في كرب أن نقول:(لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ، وهي من الدعوات التي ذكر بعض أهل العلم أنها من الدعوات المستجابات، فما المراد -إذاً- بقوله:(وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، ونبينا يعلمنا نداء ذي النون ويحثنا على أن ندعو بندائه عليه الصلاة والسلام؟ قال كثير من أهل العلم: إن معنى (ولا تكن كصاحب الحوت) : أنه خرج من بلده عن غير إذن ربه، فلا تكن مثله في هذا التصرف الذي ألجأه أن ينادي في الظلمات بقوله:{لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:٨٧] أي: لا تفعل الفعل الذي آل بيونس إلى أن دعا بهذا الدعاء، لكن إذا وقعت في كرب، فلا مانع أن تقول كما قال يونس، بل هو من الخير أن تقول كما قال يونس صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول:{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنعام:٤٣] ، لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً فخرج من بلدته بغير إذن ربه، فآل به هذا الخروج إلى أن ركب في السفينة وساهم، وكان من المدحضين، والتقمه الحوت وهو مليم، فلا تتشبه بيونس في هذا كله، ولكن إذا وقعت في كربٍ فنادِ كما نادى يونس صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فالآية فيها مقدرٌ محذوف، وهو: لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً وخرج من البلدة بغير إذن ربه، يعني: اصبر يا محمد! على دعوتك لقومك، ولا تضجر من دعوتهم وتفعل كما فعل يونس صلى الله عليه وسلم: بل اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الرسل بينهم تفاوت في الصبر في الدعوة كذلك، فنوح صلى الله عليه وسلم لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً عليه الصلاة والسلام، وقصة يونس عليه السلام فيها دلالة على شيء ذي أهمية وهو أن الهداية ليست بيد أحد؛ لا بيد نبي، ولا بيد شيخ، ولا بيد عالم ولا بيد أي شخص.
فعلى ذلك: علينا أن نعلق آمالنا بالله سبحانه وتعالى، لا بشيخ ولا بعالم، بل ولا بأي شخصٍ كائناً من كان، فيونس لما كذبه أهل بلدته وامتنعوا من الإيمان، خرج بغير إذن ربه فآمن أهل القرية كلهم أجمعون، قال تعالى:{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:٩٨] ، فهذا المعنى لابد أن يستقر في الأذهان أن الهادي هو الله، وأن الآمال معلقة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فهم هذا خيرُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو أبو بكر الصديق، لما قال عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت، إنما هذه مقولات أهل نفاق يقولونها وسيرجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر: على رسلك، ثم قال:(يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حيٌ لا يموت) ، ثم تلا قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:١٤٤] .
فلابد أن تتعلق الآمال بالله سبحانه لكشف الضر عن المسلمين جميعاً، أما أن تتعلق الآمال بشخص كائناً من كان، فالشخص مآله إلى زوالٍ، والله أعلم.
قال تعالى:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مكروب ممتلئ غماً وحزناً لمعصيته لربه وللبلاء الذي حلّ به صلى الله عليه وسلم.