للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)]

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:١١] في كتاب الله كثيراً ما يؤتى بحال أهل الإيمان بعد حال الكفار، ولهذا -كما أسلفنا- سمي القرآن مثاني، فمن العلماء من قال: سمي القرآن مثاني؛ لأنه يأتي بحال ويأتي بالحال المقابلة لها، يأتي بحال أهل النيران ثم يأتي بحال أهل الجنان أو ينعكس الأمر، فيأتي بصور من العذاب وصور مقابلة لها، {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:٥٧-٥٨] ، فالله سبحانه وتعالى: قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠] ثم قال في المقابل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وقد قدمنا أن التقييد بعمل الصالحات فيه رد على الصوفية من وجوه، منها: أن الصوفية يقولون: إن المجانين أعلى درجة من غير المجانين.

ولكن عند جمهور أهل السنة: أن المؤمن الذي يعمل الصالحات أعلى درجة من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل صالحات، فعلى ذلك الذين يتبركون بلعاب المجانين، ويقولون: إن فيه بركة، وأن الله يضع سره في أضعف خلقه -والله أعلم بهذا كله- كل هذا مناقض لقواعد أهل السنة.

فأهل السنة عندهم: أن المؤمن العامل الصالح أفضل من المجنون، فمن الأقوال فيه: أنه يختبر في عرصات يوم القيامة، فالله أعلم هل ينجح في الاختبار أو لا ينجح، وهو وإن دخل الجنان فهو في درجة الله أعلم بها، لكن قال الله رب العزة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] .

وفي الآية أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، رد على الصوفية ورد على المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا يلزم مع الشهادتين عمل، ومن نطق بهما فهو على إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل، وهذا قول الغلاة منهم، والآية فيها رد عليهم؛ لأن فيها البشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .

يقول الله سبحانه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:١٢] وهذه الآية في معناها جملة آيات وعدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم أن الله سبحانه وتعالى واسع المغفرة كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:٣٢] وكما قال عن نفسه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:١٠٧] في عدة آيات فكذلك وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه شديد العقاب، ووصف بطشه بأنه شديد، فعلى ذلك: يلزم المؤمن أن يكون دائماً بين حالتي الخوف والرجاء، خوف من الله سبحانه وتعالى أن يصيبه ببعض ذنوبه، وطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الباب حديث -وإن كان فيه بعض الكلام؛ لأن من العلماء من حسنه- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد شاباً من الأنصار يحتضر، فقال له: (كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! أرجو وأخاف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع مثل هذان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوه وأمنه من الذي يخاف) فهاتان الحالتان ينبغي بل يلزم أن تصاحب المؤمن دائماً -أي: حالة الخوف، والرجاء- لأن ذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] .

قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد} من أهل العلم من قال: يبدئ العذاب ويعيده، أي: أنه سيبدئ العذاب على الكافرين ويعيده عليهم، واستدل قائل هذا القول بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم: (ما من عبد يؤتيه الله عز وجل إبلاً فلا يؤد زكاتها؛ إلا فتح لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر، فتمر عليه أثمن ما كانت وأعظم ما كانت، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كل ما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها) فقال: يبدئ ويعيد، يبدئ العذاب ويكرره عليهم.

ومنهم من قال: ((يُبْدِئُ)) أي: يبدئ الخلق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم:٢٧] أي: في الآية على هذا التأويل الأخير إثبات للبعث، واختار عدد من أهل العلم التعميم وأنه يبدئ العذاب ويعيده، حتى أن منهم من قال: يبدئ رحمته ويعيدها أيضاً، فيرجع بالتوبة على التائبين، وهكذا قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:١٤] ، أما (الْغَفُورُ) فمعروف، أما (الْوَدُودُ) فمن العلماء من قال: معناها: الحبيب.

قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:١٥] (ذُو الْعَرْشِ) ، هل المجيد صفة للعرش أم هي صفة لله سبحانه وتعالى؟ قولان لأهل العلم: أما (المجيد) التي في آخر السورة، (بل هو قرآن مجيد) ، فمن العلماء من فسر المجيد بالكريم لما ربط بين الآيتين {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٧] وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:٢١] ، فقال: (المجيد) هو: (الكريم) .

قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:١٧] ، من العلماء من قال: (هل) بمعنى: (قد) ، ومنهم من قال: هي استفهام، لكن المراد من هذا الاستفهام: لفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه: التنبيه، هل أتاك حديث الجنود وما حل بهم؟ {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:١٨] ، نعم.

قد جاءك هذا الحديث ولكن الذين كفروا في تكذيب مستمر، فالمعنى: أنه قد أتاك حديث الجنود يا محمد وما حل بهم، وقد بلغ قومك حديث الجنود وما حل بهم، ولكنهم في إباء وعناد، والله سبحانه وتعالى قال في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ) أي: يا معشر قريش {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:١٣٧-١٣٨] يعني: أنتم تمرون بمدائن قوم لوط، وبمدائن ثمود، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ مُصْبِحِينَ) في صباحكم وأنتم مسافرون، {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، وكما قال سبحانه: (وَإِنَّهُمَا) أي: مدائن قوم لوط ومدائن قوم ثمود، ((وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ)) أي: لبطريق {مُبِينٍ} [الحجر:٧٩] أي: واضح للمارة، فالله سبحانه وتعالى يقول: قد أتاك حديث الجنود وما حل بهم يا محمد، وبلغ قومك حديث الجنود والذي حل بفرعون وثمود، ولكن: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:١٩] ، أي: دائماً في تكذيب وعناد.