تفسير قوله تعالى:(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً)
ثم قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:٤] ، جمهور المفسرين على تأويل هذه الآية على ظاهرها، أي: أن الله يحب من المؤمنين إذا هم قاتلوا عدوهم أن يكونوا صفوفاً متلاحمة متماسكة حتى لا يخترقهم عدو.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: صفاً واحداً متلاحماً حتى لا يخترقهم العدو، هذا رأي أكثر المفسرين، لكن مع هذا الرأي وقفات، وآراء أخر لأهل التفسير؛ إذ الحروب تختلف في طرقها، والكر والفر أثناء القتال يستدعي مخالفة الصف، ويستدعي التقدم أو التأخر، أو الاحتيال من أجل لقاء العدو، فربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:١٢١] فقوله سبحانه: (وإذ غدوت) أي: خرجت في الغداة، (من أهلك) أي: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنها كما في التفسير والأحاديث، (تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) أي: تنزل المقاتلين منازلهم.
فهل يلزم هذا الآن في صور القتال التي تختلف عن تلك الصور التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ صور القتال على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتمثل في الضرب بالسيوف، والرمي بالسهام، والاتقاء بالدروع، ونحو ذلك، وهذه لا تتلاءم الآن مع أنظمة الحروب كما أسلفنا، فالكر والفر يستدعي أن تتقدم أو تتأخر.
وبعض المفسرين حملوا الآية على عموم الوحدة والتآلف بين المؤمنين، التآلف القلبي والتآلف الظاهري، وعلى الوحدة القلبية والوحدة الفكرية، والسمع والطاعة للإمام، وعدم الخروج عليه أثناء القتال.
فثم أقوام تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى! كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[الحشر:١٤] أي: تحسبهم في الظاهر مجتمعين على قلب رجل واحد، ولكن قلوبهم متفرقة.
والشاهد: أن من المفسرين من قال -وهو قول قوي في غاية القوة- المراد: التلاحم والتآلف بين القلوب، مع ما يترتب عليه من امتثال الأوامر الظاهرة حين يضعهم الإمام ويرتبهم، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل، حيث كان ينزل الرماة منازلهم ويبوئ المؤمنين أماكنهم للقتال.