للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نوع النسخ في قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت.]

هذه الآية هل فيها نسخ الأخف بالأثقل أم الأثقل بالأخف إن قلنا بأنها منسوخة؟ كان أول الأمر الحبس المطلق إلى أن تموت، ثم جاء الأمر بالرجم في حال كون الزانية ثيباً، أو بالجلد والتغريب للبكر، والمرأة لا تغرب، فالتغريب لا يكون في شأن النساء، فإن المرأة إذا زنت وغربت اضطررنا إلى أن نخرج معها رجلاً من محارمها يغرب معها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم) ، وما هو الذنب الذي اقترفه محرمها حتى نغربه هو الآخر؟! ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب امرأة، إنما التغريب في حق الرجال.

فالشاهد: أن المرأة إذا زنت وكانت ثيباً فعليها الرجم، وإذا كانت بكراً فعليها جلد مائة، وأول الأمر كان الحبس حتى الوفاة، فهل هو نسخ للأخف بالأثقل أم للأثقل بالأخف؟ قد يرى البعض: أنه نسخ للأخف بالأثقل وذلك في حالة الرجم، فالحبس في البيوت أقل من الرجم.

لكن قد يقول آخر: إن جلد المائة أخف من الحبس في البيوت طول الحياة، فلكل وجه.

لكن على كل حال: نسخ الأخف بالأثقل وارد في كتاب الله، ونسخ الأثقل بالأخف وارد كذلك في كتاب الله، أما نسخ الأخف بالأثقل فمثاله قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:١٨٤] ، ففي بداية الأمر كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم يفطره مسكيناً، على رأي الجمهور احترازاً من رأي عبد الله بن عباس، فجاء الأمر بالإلزام بالصيام في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] ، فالإلزام بالصيام أثقل من التخيير بين الصيام والإطعام.

أما مثال نسخ الأثقل بالأخف فهو قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] فنسخت على رأي أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦] ، وكذلك مصابرة المؤمن لعشرة من الكفار نسخت بمصابرته لاثنين فقط لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:٦٦] .

فالآية تشعر بالتدرج في الأحكام، مثل التدرج في أحكام الخمر، وتقدّم أنه كان على أربع مراحل: الإباحة المطلقة، بل والمن بالإباحة: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:٦٧] ، ثم {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:٤٣] ، ثم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] ، ثم الاجتناب الكلي: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:٩٠] .

وكذلك في الجهاد: الأمر بكف اليد ابتداءً: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:٧٧] ، ثم الإذن: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج:٣٩] ، ثم الأمر بالقتال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:٥] .