[تفسير قوله تعالى:(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.]
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:٥١] ، هذه الآية تصوّر موقف أهل الكفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تلوت القرآن -يا محمد- ورآك أهل الكفر، نظروا إليك نظرات قاتلة بأبصارهم، وأوشكوا بهذه النظرات أن يسقطوك من على منبرك وأنت تقرأ القرآن، أو يسقطوك من مقامك وأنت تقرأ القرآن: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، فالآية أثبتت العين، واتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على إثبات أن العين تدخل الرجل القبر وتولج الجمل القدر، فالعين حقٌ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(العين حق، ولو كان شيءٌ سابقاً القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا) ، وفي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى على جارية لـ أم سلمة سفعة أي: تغيراً وسواداً في وجهها، فسأل ما هذا يا أم سلمة؟ قالت: يا رسول الله! إن بها النظرة، قال: فاسترقوا لها) .
وثبت بإسناد صحيح -وتقدم مراراً- (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاثة أيام، فرأى أولاد جعفر قد خفتوا وأصبحوا مثل الأفراخ فقال لها: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم) .
ولا يخفى عليكم قصة سهل بن حنيف لما اغتسل وكان رجلاً أبيض، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله! ما رأيت جلد عذراء كاليوم، فسقط سهل في الحال فقال: أصحابه يا رسول الله! أدرك سهلاً! قال: (من تتهمون؟ قالوا نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: علامَ يحسد أحدكم أخاه! إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمر عامر بن ربيعة بأن يتوضأ ويغسل ركبتيه وداخلة إزاره، ثم أخذ الماء فصبه على سهل بن حنيف، فقام: كأنما نشط من عقال) أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه رضي الله تعالى عنه.
فكل نصوص الكتاب -ومنها قوله تعالى:(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) - ونصوص السنة -ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(العين حق) - تثبت أن العين لها تأثير، وأن تأثيرها لا يكون إلا بإذن الله، شأنها في ذلك شأن أي سببٍ مادي، فأنت إذا رماك شخصٌ برصاصة لا تقتل إلا بإذن الله، وإذا حاول شخص أن يسرقك لم يسرقك إلا بإذن الله، وكذلك إذا نظر إليك شخص لم يستطع أن يصيبك بشيء إلا بإذن الله، شأنها شأن سائر الأشياء المادية، وكون ذلك وكيفيته وطريقته يعلمه الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر العرب -بل والمفسرون- في هذا الباب أقوالاً وقصصاً في غاية الطول، لكن فيما ذُكر من كتاب الله وفيما ذُكر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنى عما سواه، ومما ذكر العرب أن رجلاً من العائنين الذين يصيبون بأعينهم كانت تمر به ناقة فيقول لغلامه: يا بني! اذهب فاشترِ لنا من هذه الناقة، فما هي إلا خطوات حتى تسقط وتنحر ويشتري منها اللحم ويأتي به! فذكروا قصصاً واسعة في هذا الباب لكن ينبغي أن يكون مستندنا دائماً قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن -كما أسلفنا- ذكروا عدة قصص للتوسع في ذلك، والله أعلم.
(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، والذكر: هو القرآن، والدليل على ذلك، قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:٩] ، وليس من الأدلة على ذلك قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف:٤٤] ؛ لأن قوله:(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: شرفٌ لك ولقومك، كما قاله.
(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ، ليس ضرباً من الجنون ولا من الأساطير.