قال الله تعالى:{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}[القمر:٤٢] ، فذكر الله سبحانه أهل الكفر أمة تلو الأخرى، ثم وجه الخطاب إلى مشركي قريش بقوله سبحانه:(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) أي: هل أنتم أفضل أو أقوى من هؤلاء الكفرة الذين أبادهم الله سبحانه؟ وهذا القول يوجه إلى كل كافر وإلى كل طاغ في كل زمان، والله سبحانه لما أنزل على قوم لوط ما أنزل قال في شأن هذه الأحجار {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود:٨٣] ، ليست هذه الأحجار ببعيدة عن الظالمين في أي زمان بل هي قريبة منهم.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم موجهاً الخطاب إلى المشركين:(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) الذين أهلكهم الله أم تظنون أنه قد كُتبت لكم براءة في الكتب؟ هل سطر في الكتب أن مشركي قريش لن يمسهم العذاب؟ {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}[القمر:٤٣] ، أي: في الكتب التي سبقت، هل قرأتم في الكتب التي نزلت على الأنبياء أنكم -يا معشر قريش- كتبت لكم براءة ولن تعاقبوا ولن تؤاخذوا؟ وهذا أسلوب تهكمي فيه سخرية من هؤلاء القوم ومن أفكارهم.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}[القمر:٤٤] ، (أم) هنا تختلف في تأويلها عن (أم) في الآية التي قبلها، فـ (أم) في الآية التي قبلها: (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) استفهامية تحمل معنى الاستنكار والتوبيخ والتقريع، أما (أم) هنا في: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بمعنى: بل، فالمعنى: بل يقولون: نحن جميع منتصر، أي: أن هؤلاء الكفار يقولون: (نحن جميع) : أي: نحن جمعٌ، بدليل قوله تعالى:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ}[القمر:٤٥] ، فقولهم (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي: باجتماعنا معاً سننتصر على محمد بل على العقوبات التي تأتينا بل على الملائكة كما قال أبو جهل لرسول الله: أتتوعدني وأنا أكثر هذا الوادي نادياً، فقال الله سبحانه وتعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق:١٧-١٨] ، وكما ذكر بعض المفسرين في تأويل قوله تعالى:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:٣٠] ، قالوا: إن أهل الشرك لما نزلت هذه الآية فُتِنوا بها، وقالوا: نحن أكثر عدداً، نحن تسعة عشر ألفاً أو نزيد، فكل ألفٍ منا يوكلوا بأحد هؤلاء الخزنة، ونحن جميعٌ منتصر؛ لأن عددنا أكثر من هؤلاء الملائكة، وسننتصر عليهم! يا لهذا الجهل وهذا الغباء! والعياذ بالله.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}[القمر:٤٤] فرد الله عليهم: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}[القمر:٤٥] ، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان أهل الشرك قد جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه جموعاً، وكان من الصحابة من يقول لما نزلت هذه الآيات قبل أن تتحقق: أي جمعٍ هذا الذي سيهزم؟ ومتى سيهزم؟ ولما جاء يوم بدر، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه إلى السماء قائلاً:(اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(سيهزم الجمع ويولون الدبر سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، وما هي إلا لحظات في يوم بدر حتى هُزِم الجمع وولوا الأدبار كما وعد الله سبحانه وتعالى.
وإن لحقت بهم الهزيمة فهذه الهزيمة لا تقارن بعذاب الآخرة، قال سبحانه:{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:٤٦] ، أي: أشد وأعظم.