للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)

قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:١٣٠] .

أحياناً يكون في الفرقة خير، فإذا استحالت الحياة الزوجة بين الزوجين وحدث كل يوم سباب وشتائم، وعدم إقامة لحدود الله سبحانه وتعالى، وعدم تعاون على إقامة سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففي هذه الحالة إن يتفرقا يبدل الله الزوج خيراً من زوجته، ويبدل الله الزوجة خيراً من زوجها، وهذا هو معنى: (يغن الله كلاً من سعته) .

فالطلاق ليس في كل الأحيان شراً، بل قد يكون في بعض الأحيان خروجاً من المشاكل، ومن السباب، ومن مخالفة أمر الله ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى.

تأيمت حفصة رضي الله عنها فعرضها عمر على عثمان فرفضها عثمان، وقد تزوج عثمان بنت رسول الله بعد ذلك، وهي خير له من بنت عمر من ناحية النسب، وحفصة تزوجت رسول الله خير لها من عثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:١٣٠] وهذه الفرقة إذا وقعت فيجب أن تكون بإحسان، فإن الله تبارك وتعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] أي: الطلاق الرجعي الذي للزوج حق الرجعة فيه على زوجته مرتان، فإذا طلقها المرة الأولى وراجعها والثانية وراجعها؛ فإنه بعد الثانية إما أن يمسك بمعروف، بأن يردها إليه ويرجعها بالمعروف، أو يسرحها بإحسان.

ما معنى التسريح بإحسان؟ قال بعض أهل العلم إن التسريح بإحسان هو الطلاق، لكنه قول مرجوح؛ لأنك إذا قلت: إن التسريح بإحسان هو الطلاق ورد عليك في الآية نفسها {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:٢٣٠] فعلى هذا تكون طلقة رابعة، ولا يجوز ذلك بالإجماع.

فالتسريح بإحسان من العلماء من قال: إنه الطلاق، لكنَّ الأكثرين على أن التسريح بإحسان معناه: أن تترك الزوجة بعد أن تطلقها التطليقة الثانية بدون أن ترجعها إليك، حتى تنقضي عدتها، وهذا القول أفضل من ناحية النظر؛ لأنك إذا غدرت بعد أن تركتها حتى انتهت عدتها وذهبت إلى أهلها، فإذا بدا لك أن تتزوجها فإنه يجوز؛ لأنه بقي لك طلقة، فإذا قلنا: التسريح بإحسان، فإن الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] فإذا قلنا لك: طلقها ثالثة فهو غلط، لأنه ما أمر بالطلاق، بل يفهم من الآية أن يسرحها بإحسان، فكأنك تقول له: طلقها مرة ثالثة، والآية لا تتحمل هذا المعنى.

وإن قال بعض أهل العلم: إن التسريح بإحسان هو الطلاق، وأورد فيه حديثاً فيه ضعف، لكن التسريح بإحسان هو أن تتركها سارحة حتى تنقضي عدتها فتبتعد عنك بدون طلاق، فيكون محفوظاً لك عندها طلقة.

قد يقال: جاء في الآية قوله: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} فقوله: (أُسَرِّحْكُنَّ) أي: أطلقكن.

و

الجواب

أن التسريح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:٢٨] معناه أعم من التطليق، كما يقال: يغدو عليهم بسارحة لهم، ويقال: سرحت البهيمة، أي: تركتها وأرسلتها؛ لأن الفلاحين يقولون: نحن سنروح في الصباح بالبهائم لترعى، إذاً: فالتسريح أعم من التطليق.

ولذلك قال أهل العلم في باب ألفاظ الطلاق: ألفاظ الطلاق ثلاثة: طلقتك، وهذا لا يحتاج إلى نية عند التلفظ به، ولا يحتاج إلى سؤال عن النية، كأن تقول: طلقتك، أو أنتِ طالق، لكن هناك لفظان يحتاجان إلى نية وهما: سرحتك، وفارقتك؛ لأن فارقتك تحتمل الطلاق، وتحتمل غير الطلاق، كذلك التسريح يحتمل الطلاق ويحتمل غير الطلاق، فالتسريح من الكلمات التي تعددت معانيها.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:١٣٠] فأتى بقوله: (وَاسِعًا) من جنس (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فالآيات في الغالب تختم باسم من أسماء الله سبحانه أو صفة من صفاته موافقة للأحكام التي فيها، ولما يريده الله سبحانه وتعالى منك.

أي: إذا كنتِ يا أيتها المرأة التي تزوجت من زوج مؤذٍ لا يراقب الله ولا يراقب رسول الله، ولا يقيم حدود الله فيك، ويمنعك من إقامة حدود الله في نفسك، فلا تتردي في مسألة الطلاق ولا تخافي، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:١٣٠] .

ويا أيها الرجل يا من تزوجت بامرأة شريرة لا تساعدك على إقامة حدود الله، وتخونك إذا خرجت، إن الله لم يضيق عليك، فإن تفارقها يغنك الله سبحانه وتعالى.

فالطلاق ليس في كل الأحوال شراً، وليس في كل الأحوال أيضاً خيراً؛ لما فيه من تشتيت للأولاد وتشريد لهم، والله أعلم.