للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول الآيات الأولى من سورة المجادلة وفيمن نزلت]

أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات -وفي رواية: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات- لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله وتحاوره وأنا في ناحية البيت، لا أسمع ما تقول، ولا أدري ما تقول، حتى نزل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [المجادلة:١] ) .

وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] ، قد هنا للتحقيق كما هو واضح، وكذلك إذا دخلت (قد) على المضارع في كثير من الأحيان تأتي للتحقيق: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨] ، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْه} [النور:٦٤] ، وهنا {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] .

المجادِلة على رأي جمهور المفسرين هي: خولة بنت ثعلبة، والأسانيد بهذه التسمية وإن كان في كل منها مقال، إلا أن رأي جمهور المفسرين أن المجادلة هي خولة بنت ثعلبة، وزوجها على رأي الجمهور هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وعبادة بن الصامت هو الصحابي الجليل المشهور أحد نقباء الأنصار الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، فأوس أخوه، وجملة الأسانيد -كما قلنا- لا يخلو سند منها من مقال، لكن بجملتها تعطي هذا المعنى الذى قلناه وتقلده أكثر المفسرين، وسبب نزول الآية وهو: (أن خولة بنت ثعلبة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! زوجي وابن عمي، أفنى شبابي، وأكل مالي، ونثرت له بطني، فتركني حتى ضعفت قوتي، ورق عظمي، ثم جاء وظاهر مني وقال: أنت عليَّ كظهر أمي) .

وكان في الجاهلية إذا قال قائل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يعد طلاقاً وفراقاً، فجاءت تشتكي -بعد هذه العشرة الطويلة مع زوجها- مقالة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، إلا الشيء الذي كان متبعاً وهو إتمام الفراق، فجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك علها تجد رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في البقاء مع زوجها، فما وجدت شيئاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاتجهت بشكواها إلى ربها سبحانه وتعالى، إلى الله أشكو حالتي، إلى الله أشكو ضعف قوتي، إلى الله أشكو فراق ابن عمي، واتجهت بشكواها إلى الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو شأن أهل الصلاح، إذا انقطع رجاؤهم في البشر فإن رجاءهم في الله لا ينقطع، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بعد سماعها مقالة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: (يا عائشة إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، وإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له) ، فقالت بعد مجيء هذه المقولة من أحب الناس إليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر من كانت تتوقع أن يقول هذه المقالة، قالت مقالتها الشهيرة: (لقد قلتم قولاً واستقر في أنفسكم، والله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني بريئة ما صدقتموني، ولو قلت لكم: إني فعلت الذي تريدون مني لصدقتموني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] ) ، ونحو هذه المقولة أيضاً قالها هلال بن أمية الواقفي رضي الله تعالى عنه لما رأى رجلاً مع زوجته، وجاء وأخبر النبي بذلك، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هات البينة.

قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام مكرراً: هات البينة.

قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حد في ظهرك) وأخذ ليقام عليه الحد، ولكن رجاؤه في الله لم ينقطع فأخذ كي يقام عليه الحد، ويقسم بالله وهو في طريقه لإقامة الحد عليه: أن الله سيبرئ ظهره وقد كان، فنزلت آية الملاعنة فرجاً ومخرجاً لـ هلال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:٦-٧] .

وهكذا ينبغي أن نكون، إذا انقطع رجاؤنا في البشر فلا ينقطع رجاؤنا في ربنا سبحانه وتعالى، فبابه مفتوح، وعنده خزائن كل شيء، ويجعل دائماً بعد العسر يسراً سبحانه وتعالى.

شكت المجادلة حالها إلى ربها سبحانه وتعالى، واستمع الله سبحانه وتعالى لشكواها كما نص على ذلك في هذه السورة الكريمة.

وقد ورد في بعض الأسانيد التي ينظر فيها: أن عمر كان في سفر مع بعض رجالات قريش وأكابر قريش، وفي بعض الروايات أنه خرج لبعض مغازيه فاعترضته امرأة في الطريق، فأوقفته طويلاً وخاطبته وهي عجوز، فقالت له: يا ابن الخطاب! قد كان يقال لك وأنت صغير: يا عمير! ثم قالوا لك: يا عمر! لما كبرت، ثم قالوا لك: يا أمير المؤمنين! فاتق الله يا ابن الخطاب! فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وطال مقامها معه حتى عاتبه بعض رجال قريش، وقال: يا أمير المؤمنين! تحبس الجيش على امرأة عجوز مثل هذه، فقال له عمر: أتدري من هذه التي أوقفتني؟ إنها التي استمع الله إلى قولها من فوق سبع سماوات، ونزل في ذلك قرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] ، أفيستمع ربنا سبحانه وتعالى إلى قولها ولا يستمع عمر إليها؟.