[تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به.]
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، وهذه الآية من المحكم الذي لم ينسخ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ولقيتني لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) ، أو كما قال تعالى في الحديث القدسي.
فالآية من الآيات المحكمات، ونحوها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) .
وهذه الآية ردٌ على كثير من الفرق التي ابتدعت في الإسلام، كفرقة الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، وكفرقة المعتزلة، وعدد من الفرق.
فأي شخص يموت على الشرك لا يغفر له هذا الشرك، ولكن إن أشرك وتاب في الدنيا قبل الممات، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايتهم أهل شرك، فتابوا وأسلموا فتاب الله تعالى عليهم، فالآية أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة في أنه لا يلزم أن يعذب صاحب الكبيرة وإن لم يتب، فإذا ارتكب شخصٌ كبيرة، كسرقة، أو زنا، أو قتل، أو شرب خمر، ولم يتب منها فليس بلازم أن يعذب، وأمره إلى الله تعالى فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، خلافاً لأهل الاعتزال القائلين بوجوب الاستغفار حتى ينجو الشخص من العذاب.
ونحو هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن فعل ذلك فأجره على الله، ومن أتى من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
وفي الآية ردٌ على بعض العلماء القائلين بأن القاتل لا بد وأن يعذب، ويستدل بعضهم كالحبر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] .
ويقول: إن آية النساء الطولى نزلت بعد آية الفرقان، أي: أن هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨-٧٠] ، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، وهذه من المسائل التي خولف فيها من جماهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨] أي: إذا مات الشخص على الشرك، فالشرك لا يغفر له كما قال تعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨] (الدون) تطلق على الأقل، وتطلق أحياناً بمعنى (غير) ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:٦٣] ، فقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك) أي: ما أقل من ذلك، فأي ذنب غير الشرك يغفره الله سبحانه إن شاء، وإن شاء عَذّب به.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمَاً عَظِيماً} [النساء:٤٨] أي: اختلف واخترع إثماً عظيماً.
فالإثم أحياناً يطلق على صغير الذنب، وأحياناً يطلق على كبير الذنب كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:٢٨٣] ، وأحياناً يطلق على الشرك كقوله تعالى هنا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:٤٨] .