[كيفية صلاة الخوف]
قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:١٠٢] هذه إحدى صور صلاة الخوف، ولصلاة الخوف صور ثمان، جلها ورد بسند ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والاختلاف فيها من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد.
بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة هكذا، ومرة هكذا، ومرة هكذا، فتعددت صفات صلاة الخوف التي صلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يصلي المسلمون في الحروب حيثما تيسر لهم، ولا يلتزمون بصفة معينة، وإنما يفعلون الأسهل لهم عند مواجهة عدوهم، وهذا أيضاً من باب التيسير على أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذه الصورة المذكورة في الآية الكريمة حاصلها: أن المصلين يصفون صفين: صف وراء رسول الله، وصف ثانٍ خلفهم ويصلون كلهم، ولا يشترط في هذه الصلاة استقبال القبلة، بل يتجهون إلى العدو، فلو كانت ظهورهم أمام العدو وصلوا إلى القبلة قتلهم العدو، فلا يشترط فيها استقبال القبلة، فالإمام يصف المسلمين صفين على ما ورد في هذه الآية الكريمة، ويصلي بهم جميعاً ركعة، ويقرأ بهم جميعاً الفاتحة، ويركع، ويركع معه صف، وبعد ذلك يسجد ويسجد معه نفس الصف، يأتي معه الصف الأول ركعة، ثم يقوم الرسول بالصف الأول، فيتأخر الصف الأول ويتقدم الصف الثاني يصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة هم الآخرون، ثم يسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قد صلى ركعتين هو نفسه، وكل صف صلّى ركعة، فيصلون فرادى، وكل شخص يكمل الركعة التي لم يصلها، هذه هي الصورة الواردة في هذه الآية.
وقلنا: إن هناك ثمان صور لصلاة الخوف، فصلّ كما تيسر لك وكيفما كانت الصلاة فيها نكاية للعدو وإرهاباً له وتستراً منه.
وورد في الباب ما يقرر -كما يسميها البعض- صلاة الطالب، ولكن إسنادها ضعيف، وكيفيتها أجازها بعض العلماء عند الضرورة، وصلاة الطالب فحوى الدليل الوارد فيها (أن رجلاً كان يجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فحث النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس على قتله، فقام رجل، فقال: أنا أقتله يا رسول الله، ولكني لا أعرفه، قال: علامتك أنك إذا أتيته أخذتك قشعريرة) فذهب الرجل، وأمسك عن الكلام كأنه يريد مظاهرة هذا العدو ومناصرته ضد رسول الله، فلما رآه أخذته القشعريرة، فلما تمكن منه قتله.
والشاهد: أن الصلاة حضر وقتها وهو أمام هذا الرجل، فصلى إيماءً -أي: بالإشارة- والصلاة بالإيماء جائزة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين رضي الله عنه: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فكيفما تيسر للمسلم أن يصلي فليصل.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:١٠٢] أي: الصف الثاني يكون مسلحاً، فإذا سجدت أنت ومعك الصف الأول، فليكن الصف الثاني من ورائكم، أي: قياماً يراقبون العدو.
قال سبحانه: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:١٠٢] ولمَ لم يقل: (فإذا سجدتم) فليكونوا من ورائكم وقال: (وإذا سجدوا) ؟ لأنه خطاب لرسول الله وهو خطاب للحاضر على ما هو وارد في الآية، وهذا يسميه العلماء من باب التلوين في الخطاب، وذلك لجذب انتباه القارئ، كما قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان:٢١] الضمير للغائب، {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:٢٢] ولم يقل: كان لهم جزاء، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:٢٢] ولم يقل: (وجرين بكم بريح طيبة) ونحو ذلك كثير.
قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:١٠٢] أثار بعض العلماء سؤالاً وهو: لماذا قيل في الفريق الأول: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:١٠٢] وفي الفريق الثاني: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:١٠٢] فأضاف الحذر للفريق الثاني؟ فأجاب ملتمسون على ذلك بالتماسات، قال فريق منهم: لأن العدو وهو يتربص بكم، قد يقوى غدره وتقوى همته للقتال لما يراكم منشغلين بالصلاة، فجاء التحذير للفريق الثاني إضافة إلى حمل السلاح.
أو أن المصلين أنفسهم عندما يرون أن العدو لم يهجم عليهم في الركعة الأولى يظنون أنه لن يهجم في الركعة الثانية، فيكسل بعضهم، فنبه على أن يحذروا، والله أعلم.