للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعريف الكبيرة]

من أهل العلم من قال: إن الكبائر هي التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صريح حديثه، وبيّن أنها من الكبائر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف) .

فمن العلماء من قال: إن الكبيرة هي التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنها كبيرة، وما لم ينص عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وما لم يوضح أنه كبيرة فلا يدخل في عداد الكبائر، وهذا القول قد يبدو لأول وهلة صحيحاً، ولكن بإمعان النظر فيه نجده قولاً ضعيفاً واهياً، فثم جملة أمور لم ينص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنها كبائر، مثال ذلك: نكاح الرجل أمه أو أخته، فلم يرد نص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يفيد أنها كبيرة، فزواج الرجل بأمه لم يرد فيه نص يفيد أنها كبيرة، لكن جاء في كتاب الله تهديد لمن فعل ذلك، وقال الله تعالى في نكاح امرأة الأب الذي هو أيسر من نكاح الأم: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:٢٢] .

فهذا حذا ببعض العلماء إلى أن يضعوا تعريفات للكبيرة، فكان حاصل تعريفهم أن الكبيرة: ما توعد فاعلها بلعن أو غضب من الله، أو طرد من رحمة الله، أو بالعذاب، أو بالنار، أو بحد من حدود الدنيا ونحو ذلك، فكل ذلك يعد من الكبائر.

فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ} [النساء:٣١] فهي الكبائر التي ضبطت بالضابط المتقدم، وثم بعض الأمور اختلف فيها: هل هي كبيرة أم صغيرة؟ فللعلماء أخذ ورد فيها.

من ذلك مثلاً: مسألة مصافحة المرأة الأجنبية، فقد ورد فيها حديث معقل بن يسار عند الطبراني بإسناد حسن على أقل الأحوال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) ، هذا الحديث كما سمعتم إسناده حسن يفيد أن الشخص إذا طعن بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، ولكن جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:٣٢] جاء في تفسير اللمم ما قاله ابن عباس: (ما رأيت شيئاً أشبه في اللمم مما رواه أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والرجل تزني وزناها المشي، واليد تزني وزناها البطش، واللسان يزني وزناه الكلام، والنفس تهوى وتتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .

ولما جاء الرجل الذي لقي امرأة في الطريق ففعل معها كل شيء إلا الجماع ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه حاله، فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤] ، وفي هذا الصدد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، فقال: (ألي خاصة يا رسول الله! أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة) .

والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى بمفردها على تكفير الكبائر فمن باب أولى ألا يقوى النفل على تكفير الكبائر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا يقويان -إلا إذا شاء الله- على تكفير الكبائر إلا إذا انضم إليهما شيء آخر؛ فصلاة ركعتين لا تقوى على تكفير الكبيرة، فهذا حدا ببعض الناس أن يعدوها من الصغائر.

فالمسألة إذاً في هذه الجزئية تكاد تكون مسألة خلاف بين العلماء.

يعني: هناك أمور كبيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور صغيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور بين ذلك تنازع فيها العلماء وتجاذبوا فيها الأقوال.