للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التأسي بإبراهيم عليه السلام]

قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:٤] الأسوة: هي القدوة التي يقتدى بها، أي: لكم قدوة في إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا وتأسوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قال قائل: هل الأمر بالتأسي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام عام في كل شيء أم في أشياء مخصوصة؟ هذا سؤال مطروح.

الآية التي بين يدينا تفيد أن التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما هو في شيء مخصوص: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:٤] ما هو الشيء المخصوص؟ {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:٤] أي: في تبرئه من المشركين ومن الآلهة التي يعبدها المشركون، لكن هناك آيات أخر تعمم التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، كقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر إبراهيم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:٨٣-٨٤] إلى آخر الآيات، ثم قال الله سبحانه عقبها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠] أي: تأسى واتبع.

وكذلك يقول الله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:١٥] أي: اسلك طريق من رجع إليَّ، وممن أناب إلى الله بالإجماع إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

فأمرنا أن نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أمراً عاماً، ولذلك لما أثار العلماء مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم أن شرعنا فيه أحكام ملزمة لنا وشرع من قبلنا فيه أحكام ملزمة لهم؟ فمن العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخه، يعني: أي شيء كان في شريعة إبراهيم أو في شريعة موسى أو في شريعة عيسى أو في أي شريعة سبقت، هو شرع لنا، إلا إذا جاء في شرعنا حكم آخر ينسخ الحكم الموجود في الشرائع السابقة، فنصير مع الحكم الجديد لكون شريعة محمد عليه الصلاة والسلام مهيمنة على كل الشرائع، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:٤٨] ، فالهيمنة دائماً لكتاب الله الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأتِ في شرعنا شيء ينسخ ما جاء في شرعة من قبلنا فلنأخذ به.

ومن العلماء من منع ذلك وقال: إن الله قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:٤٨] .

وقال آخرون: إن شرعة إبراهيم خاصة تلزم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل ذكره: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:١٣٠] .