[تفسير قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره)]
يقول الله لنبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١-٢] وقد أسلفنا أن النعم تحتاج إلى شكر فلذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣] .
معنى (فسبح بحمد ربك) من العلماء من قال: قل: سبحان الله وبحمده على ظاهرها، وأيد هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
ومن العلماء من قال: هذا أمر من الله لنبيه بالاستغفار؛ لأن الاستغفار في حد ذاته عبادة تثاب عليه كما تثاب على الذكر والصلاة، فإذا قلت: الحمد لله فأنت مثاب؛ لأنك حمدت الله وعبدته، إذا قلت: أستغفر الله، فهي عبادة أيضاً يثاب فاعلها.
ومن العلماء من قال: إذا كان الأفضل والأورع وسيد ولد آدم أُمر بالاستغفار فهو حث لغيره من باب أولى، فكأنه يقول: إذا كان أفضلكم أمر أن يستغفر، فإذاً أنتم أيها المذنبون الأكثر ذنوباً من باب أولى أن تستغفروا.
ومن العلماء من قال: إنها على بابها، لكن كما قال القائل: إن أهل الفضل والصلاح يرون صغار الهفوات ذنوباً كبيرة لأنها تتساقط عليهم، كما في الحديث: (إن المؤمن يرى صغار الذنوب كجبل يريد أن يسقط عليه) ، فالمؤمن إذا أذنب ذنباً صغيراً يرى أن هذا الذنب جبل سيسقط عليه، وأما الفاجر فيرى كبار الذنوب كذبابة جاءت على أنفه فهشها فطارت.
ولذلك يقول إبراهيم عليه السلام: (نفسي نفسي! إني كذبت ثلاث كذبات) اثنتان منها في ذات الله: لما دعوه لعبادة الأصنام وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] ولم يخرج لعبادة الأصنام، ولكنه عدها كذبة.
فعزز هؤلاء القوم قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وبقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:٤٥] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وببعض النصوص الأخرى.
وأوردوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار اختيارات غيرها أفضل منها، فعوتب فيها، كقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:١-٢] ، وكقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٨] ، وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لـ عمر: (لقد عرض علي عذاب أصحابك أدنى من هذه الشجرة يـ ابن الخطاب، ولو نجا أحد لكان أنت يا عمر) ، وبأنه مثلاً لما قيل له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:٨٠] استغفر للمنافقين وبعد ذلك قيل له: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:٨٤] .
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣] في كلمة (سبحان الله وبحمده) فضل، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) فكلمة (سبحان الله وبحمده) التي هي تأويل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} من فضلها أنها تمحو الذنوب وتغسل الذنوب.
قال عليه الصلاة والسلام أيضاً في نفس الباب: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
قول الله: (وَاسْتَغْفِرْهُ) أمر بالاستغفار، وهذا الأمر امتثله عموم الأنبياء: فنوح عليه السلام كان يستغفر الله، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:٢٨] ، وإبراهيم عليه السلام قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:٨٢] ، وأبونا آدم عليه السلام يقول هو وزوجه: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] ، وموسى عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:١٥١] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يعد له أصحابه في المجلس الواحد: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة.
قال الله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣] ، التوبة هي الرجوع، فتب إلى الله، معناها: ارجع إلى الله، يتب الله عليك، أي: يرجع الله برحمته وفضله عليك، وتقول: تب علينا، أي: لا تحرمنا فضلك وتفضل علينا برحمتك وبفضلك.
فالتوبة من معانيها الرجوع {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أي: إذا تبتم إلى الله رجع عليكم فضل الله سبحانه وتعالى، ورجعت عليكم رحمة الله سبحانه وتعالى، وغفر لكم ربكم ذنوبكم.
قال الله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣] ، فإذا أقبلت على الله فقد قال: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً) فالأئمة من العباد مذنبون، لذلك قيل في قصة سبأ: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ:١٥] ، وأتبعت البلدة الطيبة بقوله تعالى: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥] ، فإنكم مع أكلكم وشكركم تصدر منكم زلات وهفوات ويصدر تقصير منكم، فاعلموا أن الرب غفور {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:٢٥] .
قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣] أي: رجاعاً للعباد برحمته إذا هم تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.