للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين نزول القرآن في ليلة القدر وبين نزوله في ثلاث وعشرين سنة]

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وهنا يرد شبه إشكال وقد يشكل على البعض ألا وهو: أن الكفار طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم القرآن جملةً واحدة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:٣٢] ، أي: كذلك أنزلناه على مدى ثلاث وعشرين سنة (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) ، وهنا قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، فكيف يوفق بينه وبين نزول القرآن منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] : إن المراد بمواقع النجوم: أوقات نزول الآيات على رسول الله، وهذا رأي ابن عباس في هذه الآية الكريمة {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: أزمنة نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يوفق بين قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وفي معناها قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:٣] ، وفي معناها أيضاً قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:١٨٥] ، فكل هذه الآيات على وتيرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين نزول القرآن مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ لأهل العلم إجابتان: إحداهما: ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أنه قال: (إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل من السماء الدنيا على نبي الله صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث في ثلاث وعشرين سنة) ، فهذا أول وجهٍ للجمع.

والوجه الثاني: أن القرآن ابتدئ نزوله في ليلة القدر، فقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) ، أي: إنا أنزلنا أوله في ليلة القدر، كما تقول: وصل الحجيج، مع أن هناك حجيجاً وصلوا الآن وحجيجاً سيصلون بعد شهرين، فقوله: وصل الحجيج في يوم كذا وكذا، أي: بدأ وصولهم يوم كذا وكذا.

وجمع بعض العلماء بجمع آخر فقالوا: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل أوله أيضاً على رسول الله في ليلة القدر، وبهذا جمعوا بين الوجهين السابقين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، استفهام القصد منه تعظيم شأن هذه الليلة، كما قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:١-٣] .