للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض صور الشفاعة في الدنيا والآخرة]

وهناك شفاعات أخرى: كالشفاعة لأهل الكبائر، ودليلها حديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، وفي رواية: (أما إنها ليست للمتقين) فهي نوع من أنواع الشفاعة، تكون إنما للمتلوثين الخطائين، وهناك شفاعة في رفعة الدرجات في الآخرة، وشفاعة لإنقاذ أقوام قد سيقوا إلى النار فيشفع فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

والشفاعة دنيوية هي بمعنى الواسطة، والآية ذكرت قسميها: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:٨٥] ، هذه الشفاعة الدنيوية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا فلتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) .

فالشراح يقولون كما في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: أنه إذا أتاه السائل يسأل يسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يسكت بخلاً ولا أنه لا يريد إعطاءه إنما يقصد حتى يقول قائل: أعطه يا رسول الله فحينئذٍ يثاب الشافع وتحدث المودة بين المسلمين ويشكره من شفع له، ومن ثم يعطي النبي صلى الله عليه وسلم السائل مسألته، فهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمور: أولاً: مجلبة للمودة بين المسلمين، فعندما يأتي شخص يسأل أخاه، وتقول أنت للمسئول: أعطه، فإن أعطاه فإن السائل يحمد لك صنيعك.

ثانياً: أنك تثاب أمام الله سبحانه تعالى على هذه الشفاعة.

فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) .

يعني: الغرض من شفاعتك أن تؤجر، سواءٌ قبلت أو ردت، فهذا يحمل الشخص على أن يتدخل بالشفاعة وإن كان يتوقع أن ترد؛ لأن الأجر حاصل بإذن الله.

ومن ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عبداً يقال له: مغيث وهو زوج بريرة، لما أعتقت بريرة -كما هي السنة في المعتقات- خيّرت هل تبقى مع زوجها العبد أو تفارقه فاختارت الفراق، فكان مغيث يحبها حباً شديداً ويطوف خلفها في الأسواق يبكي، فتسيل دموعه على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: (ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة وبغض بريرة لـ مغيث فقال العباس: لو شفعت له يا رسول الله؟ فشفع النبي صلى الله عليه وسلم عند بريرة فقالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا.

إنما أنا شافع.

قالت: لا حاجة لي فيه) .

فهنا ردت بريرة طلب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان شافعاً لا آمراً، واختارت عدم الزواج، والرسول عليه الصلاة والسلام مأجور على كل حال.

فإذا استشفع بك شخص فلتشفع وإن ردت شفاعتك، ولا تتردد فأنت مأجور على كل حال، وفي هذا جلب للمودة والمحبة بين المسلمين، لكن تكون شفيعاً بالحق.

وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن بلال بن رباح أخذه أخوه ليشفع له عند قوم في زواج، فذهب بلال معه وقال: أنا بلال الحبشي كنت عبداً فمن الله عليّ بالعتق في الإسلام، وهذا أخي جاء يستشفع بي عندكم كي تزوجوه، وهو رجل سوءٍ فإن شئتم زوجتموه وإن شئتم تركتم، قالوا: بل نزوجه من أجل بلال، فهنا بلال رضي الله عنه قال بالحق ومع ذلك لم تمنع هذه الشفاعة قدر الله سبحانه وتعالى المقدر.