للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اتقاء المنافقين بالأيمان الكاذبة]

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:١] أي: نحلف لك بالله، {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:١] أي: نقسم ونحلف أنك رسول من عند الله، وهو تستر منهم وراء الأيمان، وهذا شأن أهل النفاق وأهل الكذب والغدر، يتسترون دائماً وراء الأيمان، كما قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:٢] ، (اتخذوا أيمانهم جنة) أي: وقاية يتقون بها أهل الإيمان، وبطش أهل الإيمان، ويتقون بها حدود الله، إلى غير ذلك، فمن شعار أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان، ولذلك كره جمهور أهل العلم الإكثار من اليمين.

ومن حججهم وأدلتهم على كراهية الإكثار من اليمين: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:١٠-١١] ، فالحلاف: هو كثير الحلف.

ومن أدلتهم على ذلك: أحد الوجوه في تفسير قول الله سبحانه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:٢٢٤] ، وإن كان جمهور المفسرين في تفسير الآية على أن المعنى: لا تجعلوا اليمين بالله حائلاً بينكم وبين فعل الخير، لكن ثمّ وجه آخر من أوجه التأويل بأن المعنى: لا تكثروا الأيمان.

ثالث أدلة القائلين بكراهية الإكثار من اليمين: أنه فعل أهل النفاق، وقد نهينا عن التشبه بأهل النفاق، ولا يمنع هذا أن تقسم أحياناً حتى وإن لم يطلب منك القسم ولا يثرب عليك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مراراً، فحين جاءه رجلان يختصمان، فجاء الرجل وقال: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقضوا أن على ابني مائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: -وهذا وجه الاستشهاد- والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل) ، ولم يطلب منه اليمين.

وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) دون أن يطلب منه القسم، فقد يكون هناك داعٍ يدعو إلى تثبيت الحكم فيقسم الشخص، لكن لا يكون هذا القسم شعاراً له ولا ديدناً، فهو شعار وديدن المنافقين، يتقون بأس المسلمين بأيمانهم الكاذبة.

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:١] ، وهي: نحلف عند الجمهور من المفسرين، ومن المفسرين من قال: إن معناها نقر ونعترف، لكن أكثر المفسرين قالوا: (نشهد) أي: نحلف.

{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:١-٢] ، والجُنَّة هي الوقاية، ومنه ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، (في المتصدق الذي يلبس ثياباً تجن بنانه) أي: تخفيها وتغطيها، وهذا أصل مادة الجن والجُنَّة فكلها منشؤها الإخفاء، ومنه قولهم: للجن جن لاستتارهم وخفائهم، وقيل للجنة جنة؛ لأنها تجن من دخلها لكثرة أشجارها.

فقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:٢] ، أي: وقاية يتقون بها أهل الإسلام، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:٢] ، وذلك؛ لأنهم في الظاهر أهل إسلام، ومع إسلامهم يقسمون بالله أيماناً كاذبة فيظن ضعيف العلم والإيمان أنهم على حق في مقالتهم، فينصرف عن الدين وراءهم للأيمان التي يقسمونها وللشهادات التي يشهدونها في الظاهر.

فلأهل النفاق علامات ذكرها الله في مواطن متعددة من كتابه، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:١٠] .

فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) ، أي: إن جاءته بلية أو مصيبة في بدنه أو في ماله، فلضعف إيمانه بالله يسوي بين هذه البلية وبين عذاب الله، فيترك الإيمان ويرجع إلى الكفر والردة والعياذ بالله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:١٠] ، والآيات في وصف المنافقين في غاية الكثرة والوقت لا يتسع لها، فنحن بصدد تفسير سورة المنافقين فقط.

قال الله جل ذكره: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:٢] ، أي: صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} [المنافقون:٢-٣] ، بألسنتهم، {ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:٣] ، بقلوبهم، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:٣-٤] ، هذا شأنهم وهذا حالهم، كانوا على درجة كبيرة من الحسن والبهاء والجمال، إذا نظرت إليهم أعجبك منظرهم، وإذا رأيت أولادهم أعجبك منظر أولادهم.