[تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا.]
قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} [الحديد:٢٧] .
أي: أتبعناهم برسلنا، ثم قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:٢٧] ، فمن الذي يجعل الرأفة والرحمة في القلوب؟ الذي يجعلها في القلوب هو الله، فالله سبحانه يلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن والماء، ويختم على قلوب أقوامٍ آخرين حتى تكون أقسى من الحجارة والجبال والحديد، كما قال موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨] ، فإذا أردت أن يلين قلبك فعليك أن تطلب إلانته من الله سبحانه وتعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع) ، وكان يتعوذ بالله من قسوة القلب صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والرأفة: الرقة، ثم قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ، هنا يقال: هل الواو هنا عاطفة أو هي ابتدائية؟ أي: هل يقرأ بالعطف: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، أو يقال: إن الابتداء من قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ، أي: جعلنا في قلوبهم رحمة، وهم ابتدعوا رهبانية، واخترعوا رهبانية، ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم هم الذين كتبوها على أنفسهم، أي: ألزموا أنفسهم بها؟ وقد ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شأن عيسى أنه كان جالساً مع بني إسرائيل، أو كان جالساً مع بعض الحواريين، وقال لهم: من منكم -أو أيكم- يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فقال شابٌ: أنا.
إلخ.
فذكر في آخر هذا الحديث أن فئةً من الفئات شهدت أن لا إله إلا الله وأن عيسى رسول الله، فتظاهرت عليها الفئات الكافرة فقاتلتها، فمنهم من صمد وصبر أمام القتال، ومنهم من اتجه إلى القفار والبراري يعبد الله فيها، وتعاقد مع أولئك الظلمة عقداً على أن يمكث في الصحراء والقفار والبراري لا ينزل إلى المدن ولا إلى البلدان، ويعيش فيها يعبد ربه في الصوامع حتى يأتيه الأجل، فأقر على ذلك، فأنشأوا لأنفسهم صوامع، وألزموا أنفسهم بأنواع من العبادات، فمنهم من ألزم نفسه أن يصوم الدهر، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يأكل اللحم، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يتزوج النساء، فهذه الرهبانية هم الذين اخترعوها وابتدعوها وألزموا أنفسهم بها بمثابة النذر في شرعنا، لكنهم اختلقوا هذه الرهبانية، فلما ألزموا أنفسهم بها ألزمهم بها ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، فتكون (إلا) هنا من باب الاستثناء المنقطع، كما يقول القائل: جاء القوم إلا حماراً.
فـ (إلا حماراً) هنا: استثناء منقطع؛ لأن الحمار ليس من جنس المستثنى منه، و (إلا) هنا في الآية من باب الاستثناء المنقطع.
قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله، أي الحرص على طلب رضوان الله سبحانه، فهم رأوا أن هذا الترهب يقربهم من الله سبحانه وتعالى.
وهذه الرهبانية لم تكتب على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في التبتل، أو في الانقطاع للعبادة، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة: لو أذن له الرسول لاختصينا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا رهبانية في الإسلام) ، فهذا الترهب ليس في ديننا، وقد أنكر رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأعتزل النساء.
وقال الثالث: أما أنا فأقوم ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخشاكم وأتقاكم وأعلمكم بالله أنا، ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي: لما ألزموا أنفسهم بها، فمنهم -مثلاً- من قال: لن أتزوج النساء، وليته لم يتزوج النساء، بل زنى والعياذ بالله.
والرهبان الذين يبقون في الصوامع والكنائس ويدعون أنهم لا حاجة لهم في النساء، وأنهم ترهبوا وانقطعوا للعبادة، وبعد ذلك يفعلون الفواحش ويزنون يتركون المباح من الزواج الذي أباحه الله سبحانه أمام الناس (وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ، قال تعالى: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، الذين وفوا بهذه الأمور آتيناهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) .
فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الذين ترهبوا، ولذلك قال ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:٣٤] .
فمنهم من أصبح مختلساً للأموال وهو في صورة الراهب، ومنهم من أصبح من الزناة وهو في صورة الراهب، ومنهن من أصبحت من البغايا وهي في صورة الراهبة المتبتلة.
(وكثيرٌ منهم فاسقون) فهذا حالهم كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.