تفسير قوله تعالى:(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ.)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن اليهود:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[الحشر:١٦-١٧] .
أي: مثل اليهود في انخداعهم بأهل النفاق، وذهاب وعود أهل النفاق عنهم كانخداعهم بالشيطان وذهاب وعود الشيطان عنهم وتبرؤه منهم، فكما أن أهل النفاق خدعوا اليهود وقالوا لهم:(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، فكذلك خدع الشيطان الإنسان وقال له:(اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ، وقد ساق العلماء عند تفسير هذه الآية آثاراً، وهي لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الآثار الإسرائيلية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي أمثالها:(لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآية) ، أو كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسرائيليات منها ما يُحكى ولا يصدق ولا يكذب، ومنها ما يصدق قولاً واحداً، ومنها ما يُكذَّب قولاً واحدا.
فالإسرائيليات التي تصدق قولاً واحداً هي: الأخبار التي أقرّها ربنا وأقرّها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما وافقه الشرع منها فإنه يصدق؛ إذ قد حكاها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والتي تكذب قولاً واحداً هي الإسرائيليات التي خالفت كتاب الله تعالى، وخالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والتي بين ذلك هي: أخبار إسرائيلية لم يكذبها الله في كتابه، ولا رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في سنته، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يثبتها، فهذه تُحكى ولا تُصدق ولا تكذَّب.
ومن هذا القسم الذي لا يصدق ولا يكذب: ما ورد عند تفسير هذه الآية أنه كان في بني إسرائيل عابد من العباد يعبد الله في صومعته، وكان في بلدته فتاة حسناء، ولها إخوة أربعة، فأراد إخوتها السفر، فقالوا: لن نأمن على أختنا أفضل من هذا العابد، فذهبوا إليه في صومعته، فأبى أشد الإباء أن يقبلها أو يتفقد أحوالها، فأصروا عليه، فآل الأمر إلى أن قبل رعاية أختهم وهي في بيتها، فانطلقوا مسافرين، وذهب يتفقد أحوالها اليوم بعد الآخر ويطمئن على حالها، فزيّن له الشيطان سوء العمل، وقال: سلها، فلعلها مستوحشة من فقدان الرفقة، فصار بعد أن كان يترك الطعام على باب دارها يسألها عن حالها، ثم آل به الأمر إلى أن دخل وخلا بها وارتكب معها الفاحشة، فلما حملت خشي من الفضيحة فقتلها ودفنها، فلما جاء إخوتها سألوه عن أختهم، فقال لهم: قد ماتت، وقد أحسنت إليها وقمت بدفنها وبالصلاة عليها فصدّقوه، ثم إن الشيطان أتى إخوتها في منامهم، وأوعز إليهم بالذي كان وحدث، وقال: إن أختكم في مكان كذا وكذا، فذهبوا واستخرجوها، فأتوا به إلى الملك فقرر قتله بعد أن اعترف، فأُخِذ ليقتل فجاءه الشيطان وهو في طريق القتل وقال: أنا الذي حملتك على الخلوة بها، وأنا الذي حملتك على الزنا بها، وأنا الذي حملتك على قتلها، فإن أطعتني الآن أنجيتك، قال: وما تريد مني؟ قال: تسجد لي سجدة واحدة، فسجد له فقتل وهو ساجد للشيطان، قال تعالى:(فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) .
وهذه القصة -كما أسلفنا- ليست واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الإسرائيليات، والعبرة منها مأخوذة، فالشيطان يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه يوم القيامة، كما قال تعالى عنه:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:٢٢] ، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}[الزخرف:٣٦-٣٩] ، فقوله تعالى:(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي: الشياطين، وقرناء السوء، وقوله تعالى:(جَاءَنَا) وقرئ: (جاءانا) ، فكل خليل مبطل وقرين سوء يتبرأ من خليله وقرينه يوم القيامة، وقد جاء من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه السيوطي أن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط رجلاً حليماً لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفره، وكان مشركو مكة إذا جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آذوه ونالوا منه، وكان لـ عقبة خليل غائب بالشام، فرجع خليله من الشام فسأل امرأته: كيف حال فلان وفلان من أهل مكة؟ فأخبرته، فقال لها: وكيف حال أخي عقبة؟ قالت له: لقد صبأ، ثم إن عقبة أتى يحيِّي صاحبه القادم من السفر، فدخل عليه يحييِّه فلم يرد عليه التحية، فقال: مالي أحييك ولا ترد علي تحيتي؟ قال: كيف أرد عليك التحية وقد صبأت؟! أي: دخلت دين محمد، وتركت دين قومك، قال: فماذا يرضيك عني حتى ترد علي تحيتي؟ قال: لا أرضى عنك بحال حتى تذهب إلى محمد في مجلسه فتسبه بأقبح ما تعلم من سبٍّ، وتشتمه بأقبح ما تعلم من شتائم، وتبصق في وجهه، فذهب الغويُّ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسبّه بأقبح السب، وشتمه بأقبح الشتائم، وبصق في وجهه، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن مسح البزاق عن وجهه وقال:(لئن أدركتك خارج جبال مكة لأقتلنك صبراً) ، فلما كان يوم بدر أراد المشركون أن يُخرجوا عقبة بن أبي معيط معهم، فأبى وتذكر مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوه أفضل الإبل وقالوا: إن كانت لنا الدولة والدائرة شاركتنا المغنم، وإن كانت علينا فررت على هذا الجمل، فشاء الله أن يقع عقبة بن أبي معيط في الأسر، فقدِّم كي تضرب عنقه من بين الأسارى الذين قدموا الفداء، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال:(نعم بما بزقت في وجهي) ، ونزل قوله:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا}[الفرقان:٢٧-٢٩] ، فكل خليل يتبرأ من خليله يوم القيامة، وكل قرين يتبرأ من قرينه يوم القيامة، كما قال تعالى:{الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:٦٧] .
فجدير بكل واحد منا أن ينظر في أصدقائه وخلانه قبل أن يأتي يوم القيامة، فيلعن بعضهم بعضاً، كما قال تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}[الأعراف:٣٨] .