{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[البينة:٥] أي: مفردين له الطاعة دون من سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وقد قدمنا أن الحنيف: هو المائل، على رأي جمهور المفسرين، أي: مائل من الشرك إلى التوحيد، وتفسير الحنيف بالمائل كما في قول المرأة تصف ابنها: والله لولا حنفٌ في رجله ما كان في صبيانكم من مثله ومن العلماء من فسر الحنفاء بالمقبلين، لكن الأول هو الذي عليه الجمهور.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:٥] هذه أصول الدين أمرٌ بالتوحيد، وأمرٌ بإقامة الصلاة، وأمرٌ بإيتاء الزكاة، فأيضاً نلفت النظر إلى شيءٍ هام ينبغي أن يذكر به المذكرون وهو أصول الدين، ثم بعد ذلك فروعه، لكن التركيز يكون على أصول الدين بالدرجة الأولى أمرٌ بالتوحيد، وبإقامة الصلاة، وبإتياء الزكاة، وببر الوالدين، وبالجهاد والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبالتآخي بين المسلمين كما قال الله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات:١٠] ، ومع ذلك أيضاً يذكر بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال لأصول ديننا: الوفاء بالوعد، الصدق في الحديث، صلة الأرحام، بر الوالدين كلها من الأوامر التي أمر بها ديننا، وأمر بها الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أصولٌ ثوابت.
وعند تقييمنا للأشخاص يكون ذلك بعموم ما فيهم منها، فمثلاً: شخصٌ ملتحي، فهذا الملتحي طبق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثاب عليها إن شاء الله؛ لأنه طبق السنة وامتثل أمر الرسول، لكن إذا كان هذا الملتحي نصاب يأخذ أموال الناس، فهنا الوزن يكون كما قال الله:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[الأنبياء:٤٧] ، فالنصب جريمة، واللحية طاعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجريمة النصب واختلاس أموال الناس بالباطل أشد من جريمة حلق اللحية؛ لأن حلق اللحية ليس فيها تجني على حقوق الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد فقال:(يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين) ، لأن الدين متعلق بحقوق العباد، أما الذنوب التي اقترفها الشهيد المتعلقة بحق الله فإنه يغفرها له، أما الدين الذي هو متعلق بالعباد فالله سبحانه وتعالى لا يغفره للشهيد، ويأخذ من الشهيد هذا الدين إلا إذا أراد الله سبحانه أمراً آخر.
ومثلاً: رجل ملتحي وعاق لوالديه، إذا جئنا نزن فالموازين القسط فيها:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) .
فإذا جئنا نزن الأمور فنقول: عقوق الوالدين أعظم ثم أعظم من حلق اللحية، وليس معنى هذا التهوين من شأن اللحية، فإن اللحية أمرٌ أمر به رسول الله، وحالقها آثم، لكن الآثام تتفاوت في عظمها وفي قدرها وأحجامها، ولذلك يحدث الانتكاس في الفهم، تقول: فلان من الناس طيب، أو فلان أخ، وهذا الرجل الثاني ليس بأخ، فبأي ميزان قست الأخوة؟ هل الأخوة فقط متمثلة في ثوب تلبسه مشابهاً لثوب رسول الله؟ صحيح أن الثوب المشابه لثوب رسول الله حسن، وأن الموافقة في الظاهر تجلب الموافقة في الباطن، لكن المشابهة في القلوب كذلك مطلوبة، اجعل قلبك شبيهاً بقلب رسول الله، قلباً رقيقاً لكل ذي قربى ومسلم، قلباً تقياً ورعاً خائفاُ من الله سبحانه وتعالى، فلابد أن تمشي في الطريقين معاً، ولما أنفي الأخوة عن شخص لكونه ليس ملتحياً، فأنا نفيت الأخوة بناءً على معصية.
لا، فهناك كبيرة قد تكون في هذا الملتحي، وقد تكون ظاهرة.
فالشاهد يا معشر الإخوة: أن أصول الدين مع فروعه يركز عليها جميعاً، لكن يفهم أن في الدين أصولاً، وأن للدين أيضاً مسائل لا نقول: إن فاعلها في حل، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر حتى الصغائر وحذر منها، فقال:(يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا ببطن وادي، فجمع هذا عوداً، وهذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) ، فحتى في شأن الصغائر لا يستهان بها، ولكن التنبيه هو على إخواننا الذين يفرطون في أصول الدين، وغرتهم الأماني أن طبقوا بعض أوامر رسول الله، وتركوا أعظم أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون -مثلاً- ملتحياً ومتبعاً للسنة ولكنه ينصب على الناس ويختلس الأموال، وينتهك الأعراض، أو يرتكب المحرمات مع بنات الناس، كهؤلاء السفهاء الذين يعالجون بالجن بزعمهم ويخلون بالنسوة خلوة محرمة، تتسبب في انتكاسات لقوم، وتزل قدم بعد ثبوتها، وأنت الآثم، وأنت المتسبب في هذا كله، فالله عز وجل قال:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} هذا أمرٌ بالتوحيد، {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرٌ بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أيضاً من أصول الدين، ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة)) أي: الطريقة العادلة المستقيمة.