قال الله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:١٧] ما هو وجه إيراد قوله تعالى: (ثم) هنا؟ من المعلوم أن الشخص الكافر إذا عمل عملاً لا يقبل منه هذا العمل إلا إذا كان مؤمناً في الأصل، وإلا عمله حابط، فلماذا أخر الإيمان هنا عن العمل مع أن جل الآيات الأخر تربط الإيمان بالعمل كقوله:((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) وهنا: {إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[البلد:١٤-١٧] وثم موضوعه في أغلب الأحوال للترتيب مع التراخي؟ فأجاب بعض العلماء بأجوبة، منها: أن (ثم) لترتيب الذكر، وليس للترتيب الزمني، كقول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده (قل لمن ساد ثم ساد أبوه) وأبوه كان سيداً (ثم قد ساد قبل ذلك جده) فـ (ثم) للترتيب الذكري.
القول الثاني: أن (ثم) بمعنى الواو، أي: أطعم وكان مؤمناً وكان من الذين آمنوا.
القول الثالث: إنه فعل هذه الصالحات في جاهليته، فأثبتت هذه الأفعال الصالحة التي في جاهليته، فلما آمن انتقلت معه هذه الخصال الطيبة إلى إسلامه، فأصبح أيضاً بعد إسلامه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(أسلمت على أسلفت من خير) ، هذه وجوه ثلاثة، وهناك وجوه أخر.
وقوله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:٣] أي: أوصى بعضهم بعضاًَ، الصبر: الصبر على المصائب، والصبر على الطاعات، هذه نصوص عامة، فالتواصي بالصبر من شيم أهل الإيمان والصلاح {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا}[العصر:١-٣] أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، {بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:٣] .
((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) المراد بالمرحمة: رحمة الناس والرفق بهم، فالشدة على الناس الأصل أنها مذمومة إلا في حالات واستثناءات إذا رأيت أن الشدة تنفع في هذا المقام، وإلا فالأصل أن الناس يتراحمون بينهم، كما قال تعالى في الحديث القدسي:(إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها)((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) وفي هذه الجزئية فقه متسع، المقام لا يتحمله وتفسير السورة لا يتحمله.
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:١٨] أي: أصحاب اليمين الذي يتلقفون الكتب -كتب الأعمال- بأيمانهم، ومن ثم يقولون:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:١٩] .