[تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة)]
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧] أي: فمن يعمل في دنياه مثقال ذرة من الخير يراها، وما هو ضابط الذرة؟ من العلماء من قال: إن الذرة هي النملة الصغيرة الحمراء، ومنه قول الحسن البصري في بعض مقالاته في شأن الأبرار: البر هو الذي لا يؤذي الذر.
فالشاهد: أن من العلماء من ضبط الذرة بأنها النملة الصغيرة الحمراء.
فإن قال قائل: إن العلم الحديث وضح أن الذرة تنقسم إلى الكترون وبروتون، وكل هذا لا يرى بالعين المجردة، فلماذا فسرت الذرة بهذا التفسير الذي هو النملة؟ فالإجابة أن الله خاطب الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصغر شيء في أعينهم وهو النملة الصغيرة الحمراء.
والقول الثاني: إنها ذرة الغبار التي تكون في شعاع الشمس في الغرفة التي يدخلها ثقب، على ما قاله بعض العلماء، وكان هذا أصغر شيء يتخيله العرب، لكن أصغر منه أثبت أيضاً في كتاب الله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} [يونس:٦١] فأثبت الذي هو أصغر من الذرة، فيندرج تحته ما اكتشف مؤخراً {وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:٦١] .
فقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:٧] حتى الذرة، ولذلك فقد روي عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت إذا أتاها سائل لا تبخل عليه بالصدقة، ولو بتمرة، وتقول: سبحان الله! كم في التمرة من ذرات، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة) أي: لا تحقرن جارة الهدية أن تهديها إلى جارتها أو تقبلها من جارتها ولو كانت الهدية هذه حافر شاة أو رجل شاة، وإذا أهديتِ أيتها المسلمة أو إذا رغبتِ في الإهداء وليس عندك شيء فلا تستقلي الهدية أن تهديها، وإن كانت قليلة فبادري بإخراجها ولا تحتقريها، فكم فيها من ذرات.
والوجه الثاني: إذا أهدت لك أيتها المسلمة أختكِ شيئاً فاقبليه، فالهدية في أصلها دليل على المحبة، ومن ثم حسَّ بعض العلماء حديث: (تهادوا تحابوا) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها.
فالشاهد: أنه على العبد ألا يستقل أعمال البر ولا يستصغر أعمال الشر كذلك، فقد ترى العمل في عينيك يسيراً ولكنه عند الله كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما مر بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: في أنظاركم- بلى إنه كبير) أي: عند الله سبحانه وتعالى.
فقد تتكلم بكل بساطة في عرض مسلم وتظن أنك ما فعلت شيئاً وأنت قد أكلت لحماً ميتاً، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:١٢] ، وقد تقدم عن أنس بن مالك كما في البخاري (إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات.
فالله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧-٨] هذا النص عام تندرج تحته كل أفعال البر وكل أفعال الشر، وقد استدل به الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً في فضل الخيل، فسأله سائل: يا رسول الله! والحمر -أي: والحمير يا رسول الله ما القول فيها إذا احتبستها في سبيل الله- (فقال: ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧-٨] ) .
فأفادت الآية أن كل شيء يفعله العبد مثبت، حتى خائنة الأعين مثبتة، اللفظ الذي يتلفظه العبد مثبت، حركة اليد مثبتة، قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:٥٢-٥٣] ، وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:٤٩] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:٣٠] ، فالأمر كما قال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦] .
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٨] ، لقد صحح بعض العلماء حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لـ عائشة: (يا عائشة، إياكِ ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على رجل يهلكنه -وفي رواية-: كقوم نزلوا ببطن وادٍ، فجمع هذا عوداً، وجمع هذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر: لا تحقرن من الذنوب صغيرها إن الصغير غداً يعود كبيراً إن الصغير وإن تضاءل قدره عند الإله مسطر تسطيراً فجدير بكل عبد أن يحدث توبة لكل ذنب.
والله الموفق.