تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً)
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:٣] الطابق معروف لديكم, والأطباق: الأدوار، ومن العلماء من فسر قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر:٤٤] على أن الأبواب هي الأطباق في النار، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} بفتح الباء أي: سماء بعد سماء أي: لتركبَنّ يا محمد! صلى الله عليه وسلم فيعرج بك سماء بعد سماء، وقد تقدم أن أشهر الأقوال في هذه الآية: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩] حالاً بعد حال.
لكن هنا: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:٣] أي: سماء فوق سماء، ثم سماء فوق سماء، إلى آخره، أو كل ما علا يطلق عليه: سما, يقال: سما فلان، أي: علا فلان, فالسماوات أطلق عليهن سماوات لعلوها وارتفاع مكانها.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:٣] أي: لا ترى خللاً ولا ترى ثقباً في هذه السماوات كما قال تعالى: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦] , فلا ثقب فيها، ولا تشقق فيها، ولا تصدع فيها.
قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:٣] وأصل الفطور التشقق، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطّرت قدماه) أي: تشققت قدماه، (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أي: هل ترى من شقوق؟! {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:٤] أي: مرتين أخريين بعد المرة الأولى, أي: انظر إلى السماء مرتين أخريين، وركز البصر هل تكتشف فيها ثقوباً أو لا؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ} [الملك:٤] أي: يرجع, ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:٣١] أي: رجعوا, ومنه قول صفية بنت حيي: (قام معي النبي صلى الله عليه وسلم ليقلبني إلى بيتي) ، أي: يرجعني إلى بيتي، {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٤] الخاسئ: المطرود المبعد, {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:٦٥] أي: مطرودين مبعدين, ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (اخسأ! فلن تعدو قدرك) , فالخاسئ هو: المطرود.
(يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) مبعداً طريداً (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي: كليل, فالحسير: المتعب الكليل، (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني: إذا فكرت أن تكتشف في السماء ثقباً أو خللاً أو عيباً في بنائها فانظر وركز النظر, ثم أعد النظر مرتين, ففي كل مرة من هذه النظرات سينقلب إليك البصر فاشلاً في الاكتشاف، وسيرجع ذليلاً مطروداً خاسئاً كما قال تعالى: (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) ففي الآية حث على التفكر في مخلوقات الله, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم (يقوم من الليل فينظر إلى السماء ويقرأ هذه الآيات، وهي خواتيم آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:١٩٠-١٩١]-أي: ما خلقت هذا أبداً عبثاً ولا لهواً- {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١] إلى آخر الآيات العشر) .
فيجدر بالعبد أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهذا علم ضيعه الأكثرون, علم التفكر في مخلوقات الله, والنظر في آثار المتقدمين والمتأخرين والاعتبار بهم, والاعتبار بمخلوقات الله كما قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:١٧-٢٠] كل هذا نوع من أنواع العلوم شغل الناس عنه ببهرج وزخارف الحياة الدنيا.