{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ}[يوسف:٩٣-٩٤] ، أي: خرجت العير عن مصر، وانفصلت عن بلاد مصر في طريقها إلى بلاد كنعان حيث يتواجد يعقوب عليه السلام وأسرته، {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ}[يوسف:٩٤] ، أي: هناك في بلاد كنعان: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}[يوسف:٩٤] ، أشم ريح يوسف عليه السلام، {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:٩٤] ، أي: أن تفندوا دعواي، وتتهموني بالتخريف وبالجنون، إني أجد ريح يوسف حقيقة، وأشمها بأنفي.
ترى من الذي أوصل هذه الريح من دولة إلى أخرى؟! إنه الله سبحانه، فهو قادر على كل شيء، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام حدثت له من هذا النوع معجزات ومعجزات، ففي اليوم الذي مات فيه النجاشي في الحبشة والرسول بالمدينة يخرج -وليس ثَم هواتف- إلى أصحابه فيقول:(إن أخاً لكم بالحبشة قد مات؛ فهلموا نصلي عليه) ، فيصفهم صفوفاً ثلاثة أو صفين، ويكبر عليه أربعاً، وكذلك لما استشهد الثلاثة الشهداء: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة؛ خرج الرسول -وعيناه تذرفان- إلى أصحابه ينعي الثلاثة قائلاً:(إن إخوانكم قد لقوا ربكم عز وجل، ما يسرهم أنهم عندنا) .
قال يعقوب:{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا}[يوسف:٩٤-٩٥] ، أي: جلساؤه، {تَاللَّهِ}[يوسف:٩٥] ، أي: والله {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:٩٥] ، ما زلت تخرّف، والضلال: هو الذهاب عن القصد والصواب، {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا}[يوسف:٩٦] ، بقدرة الله سبحانه، فماذا قال بعد أن ارتد بصيراً؟ ذكّر بنعم الله، وهكذا الأنبياء يعرفون نعم الله سبحانه، قال مذكراً بفضل الله:{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يوسف:٩٦] ، فلا يتذكرون إلا فضل الله عليهم عند حلول الخيرات أو الملمات.
وسليمان عليه السلام لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ماذا قال؟ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:٤٠] ، فهل قال ناجح في الامتحان ومتفوق فيه: هذا من فضل الله عليّ؟ هل قال قائل هذه المقولة لما بشر بنجاحه في الامتحان؟ هل قالها لأول وهلة؟! ما نجد أحداً يقول هذا إلا القليل النادر.