تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ.)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:٢] .
قال جمهور المفسرين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:٢] أي: خلقكم فمنكم كفار ومنكم مؤمنون وهم في بطون الأمهات، أو حتى قبل أن تخلقوا في بطون الأمهات، فإن الله سبحانه وتعالى قد مضى أمره وجرت سنته في الخلق، على أن من الخلق من خلق كافراً ومنهم من خلق مؤمناً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:١٧٩] ، (ذرأنا) أي: خلقنا، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١] أي: سبق في علمنا وفي كتابتنا أن لهم الحسنى، (أولئك) عن النار (مبعدون) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٨] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود المتفق عليه: (فيسبق عليه الكتاب -أي: المكتوب عليه- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، أو يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، والشقاوة والسعادة مقدرتان.
فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:٢] أي: خلق خلقاً هم في أصل خلقتهم كفار، قال عليه الصلاة والسلام عن الغلام الذي قتله الخضر: إنه طُبع كافراً، وخلق خلقاً آخرين في أصل خلقتهم، هم أهل إيمان، وهذا رأي جمهور المفسرين في هذا الباب.
بينما اختار آخرون رأياً آخر، وقالوا إن معنى قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:٢] ، لما خلقكم اختار قوم منكم الكفر، واختار قوم منكم الإيمان، وأوردوا شاهداً لهذا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:٤٥] ، أي: لما خلقها من ماء بدأ بالتقسيمات فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:٤٥] .
واستشهد قائل هذه المقولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ، إلا أن الاختلاف حدث في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ، ما معنى الفطرة؟ وما المراد بها؟ فرأى بعض أهل العلم: أن المراد بالفطرة: الإسلام.
ورأى آخرون: أن الفطرة: هي الخلقة التي خلقه الله عليها، سواء كانت الإسلام أو غير الإسلام، وفي هذا تفصيلات أخرى لعلها تأتي في باب أوسع إن شاء الله.
لكن رأي الأكثرين مبني على أن أصل الخلق منهم كافر في تقدير الله وفي علم الله سبحانه وتعالى، ومنهم مؤمن كذلك في علم الله وفي تقدير الله سبحانه.
فإن قال قائل: فما فائدة العمل إذاً والأمور مقدرة؟ قلنا: العمل امتثال لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لما سأله الشابان الأنصاريان: (ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .