[مسائل في التعامل مع أهل الكفر]
فنأخذ من هذا الحديث جملة من الأحكام في التعامل مع أهل الكفر، فأهل الكفر منهم طوائف محاربون، ومنهم طوائف ليسوا بمحاربين، وينسحب على النصارى أو اليهود الذين يجاوروننا في بعض البيوت أو بعض البلاد، فما هو الحكم مع النصارى الذين لا يحاربوننا، باعتبارنا أشخاص ليس على مستوى الدول، فليس لنا في الدولة شيء، والسياسات ليست بأيدينا، إنما نتكلم عنا كأفراد فـ أسماء فرد تتعامل مع امرأة مشركة فرد.
ففي الحقيقة أن لهذا جملة من الأحكام: فتجوز عيادة اليهود أو النصارى إذا مرضوا، وكذلك تجوز عيادة المشركين إذا مرضوا، فإن غلاماً يهودياً كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري، وقال له: (أسلم، فنظر الولد إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم! فأسلم، ثم مات فقال الرسول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) .
فتجوز عيادة مرضاهم، ويجوز الإصلاح بينهم إذا تخاصموا، مثلاً: لك جار نصراني حدثت خصومة بينه وبين زوجته، هل يجوز لك أن تتدخل لكي تصلح بين النصراني وبين زوجته؟ التحرير يفيد الجواز؛ لأن الآيات الآمرة بالإصلاح آيات عامة: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] فهو عام {إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١١٤] ، وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة) ، وأطلق النص ولم يقيد، كذلك قول الله سبحانه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:١٨١] فهو أمر بالعدل عام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم) ، وهو عام، وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:٤٢] ، وقيل: إن الإعراض عنهم منسوخ، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] ، فيجوز التدخل للإصلاح بينهم.
ويجوز الإهداء لهم وقبول الهدية منهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وهو نص عام لعموم الجيران، وكذلك العموم في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:٣٦] ، فهي نصوص عامة.
وفعل عبد الله بن عمر الخاص لما ذبح ذبيحة وقال لأبنائه: أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات.
وعموم قوله الله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:٨٣] ، يفيد أننا نتخاطب معهم بأدب وبإحسان أيضاً، لكن لا يُبدءوا بالسلام كما جاء بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بعض الأحكام المتعلقة بهم.
أما قبوله هداياهم، فقد قبل النبي مارية من المقوقس ملك مصر، كما أهدى إليه بغلة فقبلها منه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فالإهداء لهم، والإصلاح فيما بينهم إذا تخاصموا، والصلح أحياناً معهم؛ كله جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم) ، وكل هذه المسائل مبنية على مسألة المفاسد والمصالح العامة، لكن أنت كفرد عليك أن تفرق بين الكتابي المحارب لك، وبين الكتابي المسالم الذي لا يحارب: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:٨] ، وهنا تقييد: {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:٨] ، فإن قاتلوك في الدنيا، مثل: تخاصم رجل من المسلمين ورجل من النصارى في ثمن ثلاجة مثلاً؛ فهذه المسألة لا تنسحب عليها الموالاة والمعاداة الكلية.
إنما: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة:٨] ، أي: عن برهم: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:٨] ، (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا) ، والمقسطون غير القاسطين، فالقاسطون هم الظالمون: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:١٥] ، فالإقساط في الحكم بين المسلمين والكفار مطلوب شرعاً، وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن ابن رواحة أرسل إلى اليهود يحكم في قضية بينهم وبين رسول الله، فقال لهم: (والله يا معشر يهود لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليَّ، والله يعلم أنكم أبغض خلق الله إليَّ، ولكن لا يمنعني حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي لكم أن أقول فيكم بالحق الذي أراده الله، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض يا ابن رواحة!) .
قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} [الممتحنة:٩] أي: عاونوا {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:٤] أي: تعاونا عليه {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨] أي: معاوناً، {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:٩] أي: الذي يتولى الحربي من الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:٩] .