للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراحل تشريع الجهاد في صدر الإسلام]

قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:٧٧] .

قال فريق من العلماء: إن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وفي أصحاب له مسلمين كانوا بمكة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ونحن في جاهليةٍ كنا في عز وقوة ومنعة، فلما أسلمنا أصبحنا مستضعفين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم في الانتصار ممن ظلمهم، وكان الشخص إذا أسلم وضُرب يصبر على الضرب، ونهي أن يحمل السيف ويذهب للقتال في بداية الأمر، كما قال الله تعالى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:٧٧] ، فلما رأوا هذه الحال: قالوا: يا رسول الله! كنا أعزةٍ ونحن في شرك فلما أسلمنا أصبحنا أذلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أمرت بالكف) ، أو معنى هذا، فلما نزل الأمر بالقتال، تخلف كثيرٌ منهم عنه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:٧٧] أي: اقتصروا الآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:٧٧] أي: هلا أخرتنا حتى نموت بآجالنا بدون قتل، هذا معنى قولهم، وفيه: أن الإنسان لا يأمن على نفسه إذا سأل ربه مزيداً من التكاليف ألا يقوم بها، وقد تقدم هذا في الدرس السابق، فالإنسان يكون مقتصداً عاملاً بما أمره به رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يأمن على نفسه ألا يقوم بالتكاليف التي أمره الله سبحانه وتعالى بها.

وهنا (ألم) همزة استفهام للتعجب، ويدخل فيه التأنيب كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:٧٧] ، يعني: اتركوا القتال، واقتصروا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وذلك لما كانوا في مكة، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:٧٧] ، والقتال كان في المرحلة الثانية بعد الأمر بالكف، وكان إذناً بالقتال وليس أمراً عاماً، قال الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:٣٩] ، أي: أذن لهم بالانتصار وبقتال من قاتلهم، وبعد ذلك جاءت آية السيف في سورة براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦] .

قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:٧٧] ، ذكرنا أن سبب نزولها عبد الرحمن بن عوف، والإسناد ثابت في الصحيح، ولكن هذا لا يخدش في فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فالصحابي وإن صدرت منه زلة، فهذه الزلة تغمر في فضائله رضي الله تعالى عنه، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، ولما سبه خالد بن الوليد لما كان بينهم مشادة، وخالد هو خالد، وقتاله في سبيل الله لا يخفى، وشجاعته لا تكاد توصف؛ ومع ذلك لما نال شيئاً من عبد الرحمن بن عوف دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، والكلام موجهٌ إلى خالد بن الوليد، وهو متأخر الإسلام عن عبد الرحمن بن عوف، والله يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠] ، وخالد أسلم قبيل الفتح، لكن عبد الرحمن متقدم الإسلام، فإذا كان خالد لو أنفق مثل أحد ذهباً لا يبلغ مد عبد الرحمن ولا نصيفه، فما بالنا نحن الذين جئنا من بعدهم بقرونٍ طويلة!! فـ عبد الرحمن له من الفضائل ما لا يحصيه إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، وكان محسناً إحساناً كبيراً وزائداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بسند مرسل: أن أم المؤمنين عائشة كانت تقول لـ أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة؛ وذلك لأنه أعطى أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أربعين ألفاً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محسناً إحساناً شديداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.

واستفاد العلماء من سبب النزول هذا: أن الشخص المسلم الصالح إذا صدرت منه زلة لا يؤاخذ بها، ولا بد من تقييم محاسنه بجوار زلته تلك، وليس كل من أخطأ خطأً أو اقترف إثماً يغطي هذا الخطأ وهذا الإثم سائر أعماله الصالحة، وقد تقدم أن أمير المؤمنين عثمان فر يوم أحد، ولكن قال الله فيه ومن معه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:١٥٥] .

فالمحسن إذا زل وأساء، فرب العزة حكمٌ عدل، لا تطيش الإساءة عنده بكل الحسنات، بل الحسنات في أكثر الأحوال هي التي تطيش بالسيئات، كما ورد ذلك صريحاً في حديث البطاقة الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.