فالرسول صلى الله عليه وسلم:(لعن المحلل والمحلل له) ، وفي بعض الروايات المتكلم فيها:(أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف المحلل بالتيس المستعار) .
فهذا التيس الذي استعير لتحليل المرأة لزوجها الأول مرتكبٌ لكبيرة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه، وكل من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام يعتبر مرتكباً لكبيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له، فلو أن رجلاً تزوج امرأة وفي نيته أن يحللها لزوجها الأول، فإنها لا تحل للزوج الأول إلا إذا نكحت زوجاً غيره وجامعها هذا الزوج الجديد ثم طلقها برغبة منه، فحينئذٍ يجوز للأول أن يتزوجها، ولو أن رجلاً أضمر النية في قلبه أنه سيتزوج فلانة كي يحللها لفلان لكنه لم يصرح بذلك عند العقد، فالعقد صحيح ولا إشكال فيه.
وهذا يجرنا إلى مسألة وهي: الزواج بنية الطلاق: رجلٌ نزل بلدة من البلدان، وخشي على نفسه الفتنة فيها، فقال: أتزوج امرأة من هذه البلدة وبعد ذلك إذا جئت لأسافر طلقتها، فالجمهور من أهل العلم على أن العقد صحيح؛ واستدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لصحته بحديث:(إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ، فقال: قد يقدم الرجل الزواج بهذه النية وبعد ذلك تتعدل نيته، ولسنا مأمورين بالنظر في النيات، فكم من رجل تزوج امرأة وفي نيته دوام المعاشرة وبعد مدة تفسد نيته ويطلقها أو تتغير نيته ويطلقها.
واستدل بأثرين عن عمر في كليهما ضعف، أحدهما: أثر ذو الرقعتين من طريق محمد بن سيرين: أن امرأةً كانت تحت رجلٍ قرشي فطلقها القرشي ثلاثاً، فبت طلاقها، فلم تعد تحل له إلا إذا نكحت زوجاً غيره، فذهب قومها يفتشون ويبحثون عن رجلٍ يتزوجها ويطلقها وترجع لزوجها الأول، فأرسلوا امرأةً إلى رجل كان يجلس عند باب المسجد يلبس ثوباً مرقعاً فقالت له المرأة الوسيطة: هل لك يا ذا الرقعتين أن نزوجك امرأة الليلة تبيت معها وتستمع بها، ونأتيك بثوبين جديدين، وتفارقها الصباح! قال: نعم أفعل، ففي الليل أعجبت به المرأة وأعجب بها، وكانت متبرمة من زوجها الأول، فقالت له: إنهم سيأتون في الصباح ويأمرونك بالطلاق فلا تطلقني، إن اشتدوا عليك فاذهب إلى أمير المؤمنين عمر فأخبره بذلك، فبعد صلاة الفجر إذا بالباب يطرق ويقولون له: اخرج، قال: لماذا أخرج فهذه زوجتي؟ فاشتدوا عليه فذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فأمره عمر أن يبقى معها ولا يطلقها، وعزر المرأة التي كانت وسيطاً في الزواج، وكان عمر كلما قابله قال: مرحباً بك يا ذا الرقعتين، سبحان من كساك هذه الرقعتين.
فقال أتباع الإمام الشافعي ما حاصله: إن الرجل تزوجها وفي نيته أن يطلقها، والنية هذه لا تعتبر شيئاً ولم تؤخذ بالاعتبار، إنما أمضى عمر الطلاق مع علمه أن الرجل أقبل عليها وفي نيته أن يطلقها فدل ذلك على صحة العقد.
واستدلوا بدليل آخر، وهو: ما أخرجه البخاري في صحيحه: أن امرأة رفاعة القرظي أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، يعني: انتهت التطليقات التي هي له عليّ، وإني تزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير فوالله يا رسول الله ما معه إلا مثل الهدبة -وأشارت إلى هدبة من طرف ثوبها- لا يغني عني شيئاً -أي: أن ذكره قصيرٌ لا يشبعها- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء زوجها الجديد عبد الرحمن بن الزبير، فقال: يا رسول الله! إنها والله امرأةٌ ناشز، وإني أنفضها نفض الأديم وأتى معه بولدين، فرأى إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهما أشبه بأبيهما كما أن الغراب يشبه الغراب، فقال: هذا الذي تزعمين أن ما معه إلا مثل الهدبة، لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) .
فقال هؤلاء المستدلون من الشافعية: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة) ، فتزوجت عبد الرحمن وفي نيتها أن تُطلّق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد، وما قال: إن العقد باطل.
ولكن: أجيب على هذا الاستدلال: بأن نية المرأة لا تؤثر في الطلاق بشيء، فإن الطلاق هو بيد الرجل، والله سبحانه وتعالى أعلم.