لماذا قدمت الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)) [النساء:١١] ؟ معلومٌ أنه إذا مات رجل عليه دين وأوصى وصية، فإن الدين يُقضى أولاً بالإجماع.
ولأهل العلم في تقديم الوصية على الدين أقوال: أولها: أن الحرف (أو) لا يفيد الترتيب، كأن تقول لشخص اذهب إلى المنصورة أو الإسكندرية، فهذا تخييرٌ، ليس معناها: أن يذهب إلى هذه أولاً ثم إلى تلك ثانياً.
ثانيها: أن الوصية قُدِّمت؛ لأن الشخص إذا اهتم بالشيء الصغير سيهتم بالكبير، فإذا اهتم الشخص بتنفيذ الوصية سيهتم من باب أولى بتنفيذ الدين، كما قال الله حاكياً عن الكافر:{يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً}[الكهف:٤٩] ، فقدمت الصغيرة على الكبيرة، فإذا كان لن يغادر الصغيرة، إذاً لن يغادر الكبيرة.
ثالثها: أن الوصية كانت مشاعة في الناس، فقُدِّم ذكرها لتفشيها الأوسع في الناس، والشيء إذا كان متفشياً بصورة أوسع في الناس فإنه يقدم على الذي لم يكن متفشياً.
فمثلاً: آية المحرمات في النساء صُدِّرت بقوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}[النساء:٢٢] ، قُدِّمت زوجة الأب في الذكر على الأم مع أن التزوج بالأم أقبح وأشنع من التزوج بزوجة الأب، ولكن التزوج بزوجة الأب كان متفشياً في الجاهلية، وأهل الشرك في الجاهلية كانوا يحرمون الأم؛ لكن لم يكونوا يحرمون زوجة الأب، فعندما يموت الأب كان كل واحد يجري إلى امرأة أبيه بسرعة؛ لأن الذي يسبق ويضع عليها ثوباً يكون هو أحق بها من غيره، إن شاء تزوجها هو، وإن شاء زوَّجها لغيره، وإن شاء سرَّحها وردها إلى بيت أهلها، فيتصرف فيها كيف شاء.
فلذلك قدمت الوصية على الدين لتفشيها.
قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً)) [النساء:١١] أي: لا تميز ولداً على الآخر، ولا تميز بنتاً على ولد، أو ولداً على بنت، فأنت لا تدري من الذي سينفعك عند الله ومن الذي سيضرك؟! قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:١١] : والمشرِّعون التونسيون الطواغيت الذين يجعلون المرأة مثل الرجل في الميراث، فهم في غاية الجهل والغباء، والله هو العليم الحكيم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:١١] .