قال الله:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل:١٠] ، وهو الهجر أو الهجران الذي لا عتاب معه، (اهجرهم هجراً جميلاً) أي: اهجرهم هجراً لا عتاب معه، وهو كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}[الجاثية:١٤] ، لكن هل المراد بالهجر الجميل: الصبر على الأذى وعدم مواجهته بأذى مشابه؟ من العلماء من قال: إن هذا في بعض أنواع الأذى، لكن بعض العلماء يقولون: إن الآية منسوخة بآية السيف؛ لأن الله قال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}[التوبة:٢٩] ، وقال:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:١] ، وقال أيضاً:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التحريم:٩] ، وقال سبحانه مثنياً على الذين ينتصرون إذا أصابهم البغي:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}[الشورى:٣٩] ، فليس كل من أصابه البغي يحمد عفوه إن عفا، قد يكون في العفو أحياناً تقوية للظالم وتجريء للظالم على ظلمه، فالمسألة تحتاج إلى فقه واسع، أحياناً تعفو، وأحياناً تؤاخذ، وأحياناً تصبر، وأحياناً تنتقم، وأحياناً تشتد، وأحياناً تلين، وكل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الرسول لأقوام ودعا على أقوام، عفا الرسول عن أقوام وانتقم من أقوام، منَّ الرسول على أقوام وقتل أقواماً، كل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل من السنة، ولكن الفقيه هو الذي يأخذ من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام ما يوافق الواقعة، مثلاً: شخص ضربك، هل أنزل عليه {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}[الشورى:٣٩] أو أنزل عليه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى:٤٠] ؟ أو أداريه أو أعاقبه؟ الحكمة هي ضالة المؤمن، والرسول يقول:(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فقد يكون شخص حامل لكل النصوص التي سمعتموها، يحمل نصوصاً انتقم فيها الرسول، ونصوصاً عفا فيها الرسول، ونصوصاً ألان فيها الرسول، ونصوصاً شدد فيها الرسول، لكن لا يعرف هل هذا الموقف يستلزم الشدة أو يستلزم الرفق؟ فيخلط في الأمر، فلا بد لحمل النصوص من فقه في الدين وفي واقع المسلمين.
قال الله سبحانه وتعالى:{وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل:١٠] ، الهجر الجميل: الذي لا عتاب معه، وهناك صبر جميل وهو الذي لا شكوى معه.