ندخل إلى سورة الانشراح، يقول الله سبحانه وتعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:١] ، الهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات، فعلى ذلك فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، كقوله تعالى حاكياً عن فرعون:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}[الشعراء:١٨] أي: قد ربيناك فينا وليداً، وكقوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:٣٦] المعنى: الله كافٍ عبده، وكقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راحِ أي: أنتم كذلك، فالشاهد: أن نفي النفي إثبات، فقوله سبحانه:(أَلَمْ نَشْرَحْ) ، معناه: قد شرحنا، (لَكَ صَدْرَكَ) ، وهو تعديد لنعم الله على عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام وتذكير له بهذه النعم، ومعنى (نشرح) : نوسع ونفسح، (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، أي: ألم نفسح لك في صدرك ونوسع لك فيه؟ ومن المعلوم أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه محمد إنما هو شرح الصدر للإسلام، فقد يكون شرح الصدر للكفر -والعياذ بالله- كما قال تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}[النحل:١٠٦] ، أي: وسع صدره للكفر، وقال سبحانه:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[الأنعام:١٢٥] ، ولتقريب المعنى إلى الأذهان: أنت إذا كنت تحب شخصاً من الناس، فكل قول يقوله هذا الشخص قلبك يتسع له ويقبله، حتى الخطأ الذي يقوله تجد منك تأويلات لهذا الخطأ، أما إذا كنت تبغض شخصاً، فكل قول يصدر منه مكروه عندك، ولا يجد له أي مسلك يدخل به إلى قلبك، فالصدر ضيق مغلق تجاه أي قول يقوله، فشرح الله صدر نبينا للإسلام، وشرح الله صدور عباده المؤمنين للإسلام، فكل قول يقال لهم من ربهم، وكل أمر يؤمرون به، وكل نهي ينهون عنه؛ يجدون في صدورهم متسعاً له، ولو كانت آية ظاهرها التعارض مع آية أخرى تقبل قلوبهم أن نجمع بين الآيتين، أي تكليف يجد متسعاً ومسكناً يسكن في قلوبهم، فشرح الصدر -الذي هو التوسعة والفسح- نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فإذا شرح الله صدرك للإسلام تجد أن كل التكاليف وكل التعاليم تدخل إلى قلبك وأنت مستريح في غاية الراحة، ومن ثم طلب موسى هذا الطلب من ربه سبحانه فقال أول ما قال لما كلفه الله الذهاب إلى فرعون:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}[طه:٢٥-٢٨] ، فشرح الصدور نعمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله شرح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرح الصدر أيضاً المراد به: الشق، فقد شق صدر رسول الله حقيقة مرتين: مرة وهو عند ظئره أي: مرضعه التي كانت ترضعه، فخرج يلعب مع الصبيان، فجاء جبريل عليه السلام وأخذه من بين الصبيان، وشق صدره واستخرج حظ الشيطان من صدره، وغسل صدره وملأه إيماناً وحكمة، ثم لأمه -أي: ضم بعضه على بعض- فذهب الصبيان إلى ظئره وقالوا: إن محمداً قد قتل، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
والشرح الثاني الذي تم لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، أُخذ النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، ثم غُسل قلبه، ثم استخرج حظ الشيطان، وملئ القلب إيماناً وحكمة، ثم لئم الصدر كذلك، فصدره عليه الصلاة والسلام شُرح بالمعنى الأول، وشُرح أيضاً بالمعنى الثاني.
فيمتن الله على نبيه صلى الله عليه، فيقول له:(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) .