قال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}[القمر:٤] ، لقد جاءهم من الأنباء ما فيه زاجر وواعظ لهم عن شركهم وعن غيهم، ولكنهم لم يستجيبوا لتلك المواعظ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}[القمر:٥] ، كما قال تعالى:{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:١٠١] .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ}[القمر:٦] ، يعني: أعرض عنهم يا محمد! والآية أفادت فقهاً في الدعوة إلى الله وهو: أن الشخص إذا وضح للقوم الآيات، وذكر القوم بالله وبحدود الله وبشرعه برفق ولين، وكرر عليهم ذلك، فأبوا إلا الرفض وأبوا إلا العناد وأبوا إلا النيل منه والطعن فيه، بل والطعن في الشرع ومن جاء به، فله حينئذٍ أن يعرض عنهم ولا يستمر في النصح والتذكير، ولا لوم عليه؛ لأن الله قال هاهنا:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}[القمر:٦] ، بعد قوله:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}[القمر:٤-٥] ، فبعدها قال سبحانه:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}[القمر:٦] ، وفي الآية الأخرى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:٥٤] ، وفي الآية الثالثة يقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة:١٠٥] ، فمحل ذلك التولي والإعراض عنهم كما في قوله:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[النساء:٨١] ، وهنا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}[القمر:٦] ، وكما في قوله تعالى الذي سمعتموه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}[المائدة:١٠٥] ، تفيد هذه الآيات فقهاً في الدعوة إلى الله، ألا وهو: إذا كان من أمامك متمرداً وعاتياً على شرع الله، ومتبرماً من التذكير بالله، وقد بذلت معه الجهد في هذا الباب؛ فحينئذٍ أعرض عنه ولا لوم عليك كما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}[الذاريات:٥٤] ، أي: فأعرض عنهم {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:٥٤] ، أي: لا لوم عليك، فحينئذٍ هناك وقت على الداعية إلى الله فيه ألا يهين نفسه، وألا يهين أيضاً دعوته التي يحملها إذا كان من أمامه يستعملون البذاءات، ويستعملون الألفاظ السخيفة للطعن فيه وفي الدين، فحينئذٍ أمر الله وتوجيه الله لنا:(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) .