للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون.]

قال الله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:٢٠] أي: ما لهم لا يؤمنون وهذه أحوالهم؟! وهذا استفهام المراد منه التوبيخ لهؤلاء المعرضين عن طريق الله سبحانه وتعالى.

{فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} إذا كنت أيها الشاب لابد وأن تمر بك حالة تضعف فيها وتمرض فلم لا تؤمن {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:٢١] سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية.

قال أبو رافع رضي الله عنه: (صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه صلاة العشاء فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت له في ذلك، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فجهر بها فسجد فيها فلم أزل أسجد حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام) فسجود التلاوة مشروع عند هذه الآية، والأحاديث التي صحت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم سجود التلاوة في أربعة مواقف: سجد النبي سجود التلاوة في النجم، وفي العلق، وفي الانشقاق، وفي (ص) .

قال سعيد بن جبير: (سألت ابن عباس عن سجدة (ص) فقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:٨٤] الآيات إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠] فأمر نبيكم عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم، وممن أمر نبيكم أن يقتدي به داود صلى الله عليه وسلم فسجدها داود -أي: أن داود سجد في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:٢٤]- فسجدها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وما سوى هذه السجدات ففيها آثار موقوفة وبعض دعاوى الإجماع، أما سجدة (الم تنزيل) فقد قال عنها أمير المؤمنين علي: إنها من عزائم السجود، وكذلك القول في سجدة فصلت، أما سجدات الحجر والنحل والرعد والأعراف وغير ذلك من السجدات، فالوارد فيها آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسجود التلاوة لا يشترط فيه الوضوء على الصحيح، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قرأ آية النجم فسجد فيها سجد من معه من المسلمين والمشركين ويُبعد أن يكون كلهم على وضوء.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:٢١-٢٢] من العلماء من قال: (بل) بمعنى (لكن) فهذا عند بعض العلماء {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:٢١-٢٣] (يوعون) معناها: يكتمون ويسرون، وهي من الوعاء.

{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:٢٤] فيه دليل على أن البشارة لا تكون في كل الأحوال بالخير، وقد تقدم الكلام على ذلك، فإن البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير وهذا إذا لم تكن مقيدة، لكن إذا قيدت قد تكون بالخير أو بالشر على حسب الوارد فيها، فقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:١٧-١٨] بشرهم بالجنان، وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:٦٤] وبشرهم بالجنان أيضاً، أو كما قال الرسول: (هي الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن أو ترى له) ، لكن قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قيدت البشارة بالعذاب الأليم، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وحيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار) .

قال الله سبحانه: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الانشقاق:٢٤-٢٥] (إلا) بمعنى: (لكن) .

{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:٢٥] أي: غير مقطوع، والله أعلم.

وقد فاتنا في تفسير هذه السورة شيئين فلزم الرجوع إليهما: الشيء الأول: قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:١] أين جوابه؟ أم {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:١] ماذا سيحدث؟ من العلماء من قال: إن جوابه هو قوله: ((إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)) ، فالمعنى: يا عبد الله! إنك ستلاقي كدحك.

الوجه الثاني: أن الجواب محذوف، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هنالك تعلم كل نفس ما قدمت وما أخرت.

الشيء الثاني: قوله تعالى في شأن المؤمن: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:٩] ، من المراد بالأهل الذين ينقلب إليهم -أي: يرجع إليهم- المؤمن يوم القيامة مسروراً؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بالأهل هنا: الحور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) .

إذاً: من العلماء من قال إن قوله تعالى: ((وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: من حور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن.

القول الثاني: أن قوله: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:٩] ، أي: إلى ذويه من أهل الصلاح الذين سبقوه في الجنان، فأنتم تعرفون أن دخول الجنة على مراحل، فهناك قوم يسبقون إلى الجنان، وقوم يتأخرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) ، وكما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠-١١] ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة) ، فدل ذلك على أن دخول الجنان على مراحل.

فقوله: ((ويَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: إلى أهله الذين سبقوه من أهل الصلاح إلى الجنان، وينقلب أيضاً إلى ذويه.

وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.

والسلام عليكم ورحمة الله.