[وعد الله لنبيه باستبدال أزواجه]
قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:٥] ، هكذا قال عمر لما قال: (وافقت ربي في ثلاث) .
فمن موافقات عمر لربه أنه قال لـ حفصة: (يا حفصة لا تسألي رسول الله ولا تستكثريه، سليني من مالي ما شئتِ) ، وفي ثنايا حديثه معها قال: (كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فأتينا إلى المدينة فإذا رجال تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم) فنساء بعض البلاد يغلبن الرجال، ورجال بعض البلاد يستضعفون النساء، ولا يعني أنها تغلبه بالضرب، بل برأيها كأهل المدينة، أما قريش فلم يكن رجالها كذلك.
الشاهد: أن عمر قال لـ حفصة ولأزواج النبي: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:٥] ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر رضي الله تعالى عنه، فهذا يعد من مناقب عمر، وموافقات عمر لربه رضي الله تعالى عنه.
(عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) ، وما شاء الله أن يطلق أزواجه، اللهم إلا حفصة طلقها النبي وراجعها، وابنة الجون لم تكن من أزواجه عليه الصلاة والسلام، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} [التحريم:٥] ، والقانتة هنا: هي كثيرة الطاعة والعبادة، المداومة عليهما، والقنوت في هذا الموطن معناه: المداومة على الطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:٩] أي: مديماً للقيام ساعات الليل، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] ، هذا حال أهل الإيمان، فاعرضوا أنفسكم أيها المؤمنون على كتاب الله.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) ، أي: مديم للقيام، وللصلاة وللطاعة والخضوع لله، {آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:٩] ، أي: ينتظر هذا المصير الذي هو مقدم عليه يقيناً بلا شك، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] .
هذا مصيره طول ساعات الليل يقف على هذا المنوال، يستغلها في القيام والركوع والسجود، ويطيل الدعاء، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] ، فهؤلاء عباد الرحمن وهؤلاء هم أولوا الألباب.
ونفس المعنى مؤكد في قوله تعالى: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:٦٤-٦٥] فهكذا ينبغي أن يكون المسلم، فلا تتلذذ بالسماع، ولكن انظر إلى كتاب الله وامتثل أمر الله سبحانه وتعالى، اقرأ كتاب الله قراءة شخص يريد أن يعرف ماذا يريد منه ربه سبحانه وتعالى.
فمعنى: (قَانِتَاتٍ) : مديمات الطاعة والعبادة، ففيه حث للنساء على إدامة الطاعة والإكثار من العبادة، فهذا شأن النساء اللواتي عسى الله أن يبدلهن بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إن طلقهن، فالشاهد: أنه يستحب للمرأة كذلك أن تطيل قيام الليل، ويستحب لها كذلك أن تكثر من الطاعة ومن الدعاء بنيل الجنان وبالنجاة من النيران.
(تَائِبَاتٍ) ، كثيرات الاستغفار، وكثيرات الرجوع إلى الله بعد الزلات، {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:٥] ، أي: صائمات، فالسياحة هنا الصوم، لا كما يقول هذا الزنديق القصيمي الذي ألف كتاباً في الإلحاد بعد أن كان مهتدياً، ولكن أزاغ الله قلبه، وطفق يؤلف كتاباً جمع فيه بزعمه بين متناقضات، فطفق يأتي بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:٣٣] ، ويقول: أين القرار في البيوت يا عباد الله وهناك سائحات؟ يعني قبحه الله: كيف يقول الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، ويقول: (سَائِحَاتٍ) ؟ ففهم -على جهله- أن السياحة هي السياحة إلى بلاد الكفر وأماكن الفسق والدعارة، ونسي أن السياحة تطلق على الصيام وعلى معانٍ أُخر، كما تطلق أيضاً على الهجرة في سبيل الله.
والسياحة لها جملة من المعاني، أما أهل الغباء فيقصرونها على معنى واحد، ويريدون أن يحملوا الناس على اعتقاد هذا المعنى، فالسائحات هنا هن الصائمات على رأي أكثر المفسرين.
(ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) ، أي: منهن الثيبات ومنهن الأبكار؛ لأن المرأة لا تكون ثيباً وبكراً في آن واحد، فهي إما ثيب وإما بكر، فالمعنى: أن بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، ولكن إن قال قائل: قد قدمت الثيبات على الأبكار، فدل هذا التقديم على استحباب نكاح الثيبات، فنقول: إن هذا المعنى مدفوع هنا لأشياء: أولها: أن الرسول قال: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) .
ثانيها: أن الواو لا تقتضي الترتيب إنما تقتضي مطلق التشريك.
ثالثها: أن الثيب قد تستحب وتفضل على البكر إذا كانت دينة، أو إذا كانت المصلحة تتأتى من وراء هذه الثيب، كما فعل جابر وتزوج ثيباً لتقوم على أخواته البنات، فقال له الرسول: (بارك الله لك) ، وقد يقول قائل: إن الثيبات قدمن ههنا لكون أكثر نساء النبي كنّ ثيبات، والله سبحانه وتعالى أعلم.