[تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب)]
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:٣] .
الغاسق إذا وقب مما خلقه الله، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا الأسلوب يأتي لبيان أهمية الخاص، مثل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:٦٨] فالفاكهة عامة، والنخل والرمان خاص، فعطف العام على الخاص، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:٧] .
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:١٦٣] .
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:٣] أي: الليل إذا دخل، فالغاسق هو الليل، ويشهد لذلك من التنزيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:٧٨] أي: إلى ظلام الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨] .
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه خرج مع عائشة ذات ليلة، ونظر إلى القمر فقال: (يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، فمن العلماء من قال: إن من متبوعات دخول الليل ظهور القمر، وإن مجيء القمر مؤذن بدخول الليل، فقوله: (استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ؛ لأن ظهور القمر علامة على دخول الليل، وفي الليل تنتشر الشياطين، وتنتشر السباع، وتنتشر الهوام، ويبيت فيه للمكر، ويبيت فيه بالخداع، ويخطط فيه للحروب، ويخطط فيه للاغتيالات.
فالليل فيه شر مستطير، وفيه شر كثير إلا في الثلث الأخير، فإن أهل الصلاح يقومون فيه امتثالاً لقول الله تعالى: (هل من داع فأستجيب له) وإذا جاء الليل فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، وأوكئوا الأسقية واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً) ، وفي الحديث الآخر: (فإنه ينزل في ليلة في السنة داء لا يدع سقاء ليس عليه وكاء، ولا إناء ليس عليه غطاء، إلا نزل فيه من ذلك الداء) .
فدخول الليل يصحبه انتشار الشياطين، ويصحبه كثير من البلاء، ويصحبه مكر الأعداء، ويحصل فيه جملة أمور، ولذلك لما قال فرعون لموسى: {اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:٥٨-٥٩] ؛ لأن السحر يبطل في وقت الضحى، وصعب على الساحر أن يسحر في وقت الضحى، أما في الليل فربما تنظر ظلك فتظنه عفريتاً.
ففي الظلام يمكن التلبيس والدجل على الناس، وغش الناس، ولذلك أغلب أعمال الشعوذة تحدث في الظلام، ومن المشعوذين من يدجلون في الغرفة المظلمة، تدخل الغرفة فيقول لك: هذه صورة علي بن أبي طالب يجري، وهو الذي يجري، وهذه صورة عمر، وهذا عبد الله بن سلام، وهذا كله دجل يحدث في الظلام والعياذ بالله.
فالغاسق إذا وقب، قيل: هو الليل، وقيل: هو القمر، وقيل غير ذلك، ولكن أشهر الأقوال أن الغاسق هو الليل، ومن متبوعاته القمر، ومعنى وقب: دخل وأقبل بظلامه.